للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

حقيرة الأثاث وحسب الناظر أن يرى ذلك الوجه الشاحب وصاحبته في سياق الموت تجود بأنفاسها ليعلم أن الأسى والفاقة والهموم قد اعتلجت في ذلك الصدر سنين طوالا. وكان يسند رأسها أمرأة ذاوية العود خاوية العمود قد لجت في الاستعبار واسترسلت في البكاء وعلى ذراع الزوجة طفلة هي ابنتها. غير أن ذلك الوجه الشاحب لم يرفع إليها فقد كانت يدها الباردة المنتفضة ممسكة ذراع زوجها وعيناها ترنوان إليه في سكون وهو ينتفض من لحظهما: وكانت ثيابه رثة خلقة. ووجهه ملتهباً وعيناه كالفبس غير أن فيهما فترة الشراب وثقلة الخمار فقد كان في بعض الحانات بين الكؤوس والأقداح يرتشف الراح ويرتضع نثر الكأس فاستدعوه إلى سرير الموت.

وكان إلى جانب السرير مصباح ينبعث من بعض جوانبه نور ضئيل.

وقد شمل سكون الليل كل شيء خارج البيت وبات سكون الموت ملء الغرفة إلا ساعة على رف واهنة الدقات ولكنها دقات تهتك حجاب القلب ما سمعها أحد ممن التفوا حول السرير إلا أخذته رعدة وأحس أنها بعد ساعة ستدق للموت.

فظيع منظر الموت وارتقابه وإن نعلم أن الرجاء سحاب خلب وإن البرء لا مطمع فيه ولا مغمز - وإن نقضي الليالي الطوال تعد الساعات البطاء ولكن أفظع من هذا وذاك أن يبوح المريض وقد رنقت عليه المنية بما طوى من دفائن صدره وستر من مخبآت نفسه فلا ينفعه اكتتامه وحرصه إذا برجت به الحمى وأخذه هذيانها فقد قص الناس وهم في نزاع الروح أغرب القصص - جرائم وأوزار اجترحوها في حياتهم وغيبوها في صدورهم ففضت ختمها الحمى - حتى لقد ارتاع من قام عليهم ففروا لئلا تستلب عقولهم مما رأوا وسمعوا وكم من بائس قضى نحبه وهو يهذي بما ركب من الأثام ويحدث جدران الدار بجرائم جبن أقوى الناس جائشاً واثبتهم جناناً عن سماعها.

ولكن لم يسمع أحد شيئاً من ذلك في الغرفة التي تقدم ذكرها فقد كانت المرأة المسكينة ساكنة وحولها بنوها ركعاً يبكون ولما وهي ذراعها ورفعت طرفها إلى بنيها وزوجها وهي تجاول النطق عبثاً ثم سقطت رأسها على الوسادة كان يخيل للناظر انها اضطجعت لتنام. فأشرفوا عليها ونادوها برفق بادئ الأمر ثم صوت اليائس وصرخة القانط فلم يجبهم أحد. فاستمعوا إلى نفسها فلم يجدوا له حساً فأقبلوا بسمعهم على قلبها فلم يسمعوا له ركزا لقد