للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

صبيان غفلان لعلهما أخوان شقيقان، أما أكبرهما فيجري في الخامسة وما أظن الصغير يعدو الثالثة، ولم يكن أحد من الجمع في رعايتهما، ولم يعرفهما في الناس أحد، ولكن كيف أدركا عندما تولى عنهما الأهل أنهما إذا أرادا من مخالب الموت فراراً فليطفرا إلى هذا القطار. . . . ذلك سر لا أدركه.

وكانا في أثواب نظيفة، ويلبسان جوارب صوفية صغيرة، مما يبعث على الظن بأنهما من أبوين فقيرين ولكن لهما فضيلة العناية، ولا ريب أنهما طفلا أحد أولئك الجنود البواسل الذين سقطوا قتلى في ميدان الشرف، ولعل أباهما أغمض عينه على آخر نظرة استطاع أن يمنحهما إياها، وكان التعب آخذاً مبلغه منهما، وكانا بحاجة شديدة إلى النعاس، فلم يبكيا ولم يصرخا، ولم يستطيعا جواباً عن الأسئلة التي كانت تلقى إليهما ولكنهما مع ذلك لم يترك أحدهما يد الآخر، بل ظل كل مستمسكاً بأخيه، على أن الأكبر، وهو لا يزال قابضاً على يد الصغير خشية أن يفقده، لم يلبث أن تبين المسؤولية التي على عاتقه وهي حماية أخيه، فتطاول ومد عنقه إلى السيدة التي بجانبه وهو يقول في صوت ضعيف مسترحم، والنعاس يغالب جفنيه، ويبين في تضاعيف جرسه، سيدتي: هل سيذهب أحد بنا إلى الفراش؟!!

تلك هي الرغبة الوحيدة التي استطاعا في تلك اللحظة أن يشعرا بها، كل ما كانا يطلبانه من رحمة الإنسانية أن يذهب أحد بهما إلى الفراش، وقد كان ذلك، فذهبا إلى النوم، ولكن لا يزال كل منهما يشد على ذراع أخيه، متلازمين متلاحمين، هابطين معاً في لحظة واحدة إلى وادي النسيان الجميل الهادئ، سبات الأطفال، الهنيء العميق!!

وقد كتب بييرلوتي في أوائل الحرب، قبل أن تقدم تركيا على الإسهام فيها خطاباً رقيق الديباجة، بديع المعنى إلى أنور باشا ينصحه أن يبتعد بوطنه عن ويلات القتال وشره، وإليك ما قال:

روشفور في ٤ سبتمبر سنة ١٩١٤

أخي العزيز وصديقي العظيم

أرجو أن تعفو عن كتابتي إليك، لأن باعث كتابي هذا حبي لك وإعجابي بك وببلادك التي كدت أتخذها إلى وطننا، لقد ظهرت في الأرض التي حول طرابلس بطلاً صنديداً ووقفت لا خوفاً ولا رهباً وثبتّ وأنت قليل حيالهم وهم كثيرون، ثم أنت الذي في طراقية