للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

مقلوب السحنة، ثم لا يزال يبدو في الحديث واللهجة، مهما حاول ذو القلب الأسود أن يكذب على طبيعته، ويغالب لؤمه ودناءته، ويضاحك الناس ليأكلهم، ويلاعبهم ليعضهم، كما تفعل الهرة بالفأرة قبل أن يكتب اسمها في سجل الجرذ التي غابت في أجواف السنانير، وأصحاب القلوب المظلمة يرسلون دائماً في المجلس عدوى مرضهم، لأنهم يخفون حقدهم على العالم وسخطهم على القدر - في طي الفلسفة السوداء - والناس يستمعون مع هذا لهم وينصتون إلى لغة حقدهم مندهشين مذهولين لأن من خصائص الفلسفة السوداء أن لها طعماً مراً ولكنه لا يزال لذيذاً مثيراً للشهية، وليس في سرر أهل القلوب السوداء إذا احتوى الظلام الأرض، وليس فوق وسائدهم إذا ابتعث الليل من مكمنه إلا خطط للثورة على العالم لا تعد الثورة الفرنسية الكبرى شيئاً بجانب ما يجول في رأس رجل منهم فوق وسادته، وليس في قلب كل واحد منهم إلا مجموعة من أبدع ما ابتكر من أساليب اللعنة، وأغرب ما ذهب إليه من عبارات السخط، وكل قلب أسود يموت ويقف عن ضرباته، تنطفئ به ثورة، ويطوى كتاب من كتب الحقد، ويموت أسلوب من أساليب دلائل الخيرات.

من هؤلاء رجل طوال مشذب العود، ولد على الحدود القائمة بين دولة البيض والسود، وهو نسخة متأخرة من العمالقة، يمشي في أمطار عصرية، لو رآها استين لأثارت فيه ذكرى أول عهده بفتح دكانته الصغيرة في صميم الموسكى، وهو أبدا يشكو المرض لأنه دائماً يأكل بعضه، حقداً على الدنيا، ونظراً لما في أيدي الناس، وبكاء على سقوط نجمه في الأرض، ولا تراه يئن إلا من داخله، لأن أحشاءه لا تستطيع هضم جثمانه لأنه من نوع اللحم الخشن على رأي الجزارين، فلذلك لا يجد قلبه إلا أن يتأكل أطرافه، وإذا مشى إليك يحدثك فكأنه لفرط طوله يكلمك من الطابق الأعلى، أو يطل عليك من البلكون، وإذا جلس إليك فلنحول ساقيه وامتدادهما ألفيت قدمه فوق ركبتك.

وقد أصاب هذا الرجل شيئاً ضئيلاً من العلم ولكنه يظنه علم السماوات، فلا يرضيه أن يرى في الدنيا عالماً، لأنه يخشى أن ينازعه على كرسي رئاسة جمهورية العلم، ولكن العلم الذي أوتيه أشبه به أن يكون جهلاً، لأنه ليس على قاعدة، ولا ينهض على أساس، وإنما هو مجموعة متضاربة مبعثرة جمعها من السوق، وأخذها من فهارس الكتب وكتالوجات المكاتب، ولا يعجبه من كتب الأرض قديمها وحديثها شيء، ويعتقد أن جميع كتاب الدنيا