للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

من أبعد العصور إلى اليوم لم توجدهم الطبيعة إلا ليكونوا التجارب الأولية الخائبة ارتقاباً لظهوره هو ونبوغه.

وهو مثال الخيبة في الحياة لأنه مثال الغلظة في نفسه، فهو إذا اشتغل في عمل لم يلبث أن يعد صاحب العمل أجيراً عنده، ويطالبه بالاحترام الشديد الذي يعتبر إرهاقاً إذا طالب به السيد خادمه، بل قد يكاد يسأله أن يتنازل له عن حصة فيه أو يكتب له جزءاً منه في الوقفية، وإذ التمس إلى أحد من الناس ما لا على سبيل القرض أو الهبة، فكأنما هو في جرأة السؤال وقحة الطلب يسأله وفاء دين عليه، أو يطالبه بالعوايد أو الخفر وقد لا يتأخر عن إنذاره بالحجز في مدة محدودة إذا هو لم ينزل عن منحه الهبة أو القرض، وإن كانت لفظة القرض لديه يراد بها، السلفة المستديمة إذ أقسم أن لا يدفعها إلا على يد الملك المكلف بجرد تركات المفلسين في الآخرة!

وغريبة الغرائب أن يكون ذلك الرجل شاعراً. . . ولكن لا يستطيع أحد أن يفهم شعره سواه، ولعله من بخله وشحه يضن على الناس حتى بمعانيه، وهو يحاول أن يجيء بالشعر الذي لا يفهم، لأنه يأبى إلا أن تكون المعاني في بطنه ولذلك يوفر عليه الإكثار من الطعام، لأنه لا يستطيع أن يكفل الكثير منه، لفاقته ورقة حاله، وهو يدعي أن شعره هذا يرقص الهزاز فوق أيكه، والبلبل الصداح في وكنه، وإن كان شعره البربري لا يصلح أن يتغنى به على (الدلوكة) في مجالس شراب العبيد، وهو مع ذلك يقول إن الله إنما ذم الشعراء في كتابه، إذ علم أنه سيخرج في الأرض إبان القرن العشرين إله الشعر، وأن هذه الألوهية الشعرية ستقع من نصيبه فذم الشعراء جميعاً غيرة منه مقدماً وخشية من أن يتبع الناس إبليس الشعر فيسكنوا في أبياته وينسوا مقاصير الجنة.

ولشعره أوزان غير أوزان الشعر المعروفة للناس، ولعله رأى أن كل نبي يخرج للناس ينسخ السنن والشرائع التي جاءت قبله، وعلم أن نبوة الشعر قد نزلت عليه فاضطر إلى أن يحاول إظهار شيء من المعجزات، حتى يدينوا له ويؤمنوا به، فأوحى إلى صحابته والحواريين من أنصاره أن ينشروا الدعوة بين الناس، ويدعوهم إلى الأوزان الجديدة، فأخذ كل منهم وزناً منها وطاف بها على الشعراء يعرضها عليهم ويدعوهم إليها، ولكنهم ضحكوا منه ساخرين، لأنهم علموا أن الوزنة من هذه الأوزان لا تساوي (وزنة) من الجميز وأنها