للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

إطاعة للحكومات، واستماعاً إلى نداء السياسات والوزارات، بل إن دعوة مثل هذه ليست إلا دليلاً على جنون مرعب ورغبة شديدة في الهدم والقتل لا تصدر عن عقل منظم سليم.

والآن نحن آخذون في الوجه الثالث الذي أكسب الناس الجنون فأعماهم عن سلطانه، ونعني به الدين، فقد ظلت الأديان والنبيون والقديسون وأهل الخير يصيحون بالناس ويدعونهم إلى الوئام والتحاب والسكينة ولكن الشرائع السماوية والتعاليم الدينية لم تستطع شيئاً لتطهير النفوس من أثر الحيوانية والعواطف الشريرة الراسخة العرق في أعشار القلوب، وأصبح كثيرون ممن رزقوا سعة العقل، وشيئاً من الذكاء المتقد، والفطنة الوثابة، يذهبون في سبل طويلة من العقائد الملحدة، وينكرون القوى الإلهية التي تحرك الكون، ويعدون ذهنهم - وهو هذه الصندوقة الصغيرة المحدودة - مركز الكون كله، ولعل الحاد الأذكياء والقواد والأبطال باعث من البواعث الأولى التي خلقت هذه الحرب، فقد خرجوا عن العقائد المقررة الصحيحة إلى اعتناق دين القوة، وعبادة الأنانية، وأصبح جمع كبير من العلماء ينشرون في العالم جملة من النظريات الطبيعية والفلسفات العقلية التي لا تؤمن إلا بالمحسوس وما يستطيع العقل الإنساني أن يتناوله، فانطلق وراءهم كثيرون يدينون بعقائدهم، ويسلمون أنفسهم إلى الوساوس والنزعات التي سداها ولحمتها الأثرة والسمو على كثبان من الجثث الإنسانية، وقد فقد أهل الدين في المجتمع اليوم سلطانهم الأول، وأصبحوا لا يستطيعون مناهضة الأفكار الجديدة الشريرة التي طحت بالناس وأفسدت أذهانهم، ولكن قبول الدين والانصياع إلى القوانين والتعاليم التي جاءت بها الأديان ليس إلا أكبر وسيلة لإمساك النفوس عن غيها وقمع النزعات الشريرة فيها.

وقد سرى هذا الفساد إلى الخلق، لأن النزعات الشريرة تؤثر في الخلق كما يتأثر الجهاز الهضمي والمزاج العصبي بطعام غير صالح أو غذاء سيء ولهذا كان الطفل بحاجة إلى الرقابة والرعاية في الأحوال الأولى من سنه لأن الأطفال يأخذون عما يرونه من أفعال آبائهم والقائمين على تعهدهم بالتربية، وكل والد قلق الروح سريع الغضب يخرج أولاداً حمقى غير مكترثين، وأبناء ساخرين هازئين، لأن الأطفال من شأنهم الضحك من آبائهم إذ يرونهم محتدين غاضبين، ويسخرون من إشفاق أمهاتهم وخوفهن وقلقهن، فلا تزال عاطفة السخرية تنمو فيهم كلما شبوا عن الطوق حتى تنشئ منهم ناساً أشراراً مخوفين في المجتمع