بمذهب الشاعر وأقرب إلى خياله مما اختار، ولو تأملت الفصول القصيرة في هذه العمرية كعمر وشجرة الرضوان مثلاً، لرأيتها ضعيفة متهالكة حتى في النظم لأن مادة التاريخ والحكاية فيها قليلة ولم تمدها قريحة الشاعر بشيء من روحه فخرجت مخرج الاقتضاب، ولو أن شاعراً فحلا عمد إليها لا خرج من كل فصل منها فصلاً فلسفياً بديعاً، وكان في خبر شجرة الرضوان وحده أبلغ درس لجماعة المسلمين من زوار الأضرحة ونحوهم لو عرف حافظ كيف يجعل ما ليس بشعر شعراً مع أنه جاء بالخبر كله في بيتين لا قيمة لهما.
وعلى أن الشاعر إنما نظم التاريخ نظماً وعلى أنه خلط فيما اختاره من فصول القصيدة فما وقت هذه القصيدة بتاريخ عمر ولا أظهرت لنا شيئاً من أسراره الخاصة به ولا بينت لنا أوليات عمر التي امتاز بها كالتاريخ الهجري وتدوين الدواوين وتمصير الأمصار واتخاذ بيت المال وما إلى ذلك مما هو مادة للاجتماع وللسياسة وللتاريخ، بل كان أكبر الأمر عند حافظ أن ينظم قطعاً قطعاً على النسق التاريخي ومع سهولة هذا العمل فقد جاء بالتاريخ ممسوخاً حتى أن من لم يقرأ تاريخ عمر ويرجع إلى الأصل الذي نقل عنه الشاعر لا يكاد يفهم من القصيدة إلا ما يعطيه ظاهر اللفظ.
والآن نفرض أن حافظاً أراد من قصيدته أن يتحف الصناعة - صناعة الأدب - بتحفة من الفن فهانحن أولاء نقرأ القصيدة ونعيدها ونتدبرها ونقلب النظر فيها فما نراها من أولها إلى آخرها إلا نظماً نظماً وإلا وزناً وزناً، أما المجازات والاستعارات والكنايات وتفويف العبارة وحسن الإشارة والاختراع في أسلوب الأداء ونحو ذلك مما هو من باب الصناعة البيانية التي ترفع طبقة الكلام عن الكلام فما نرى منه شيئاً، بل إنك لتجد هذه الصناعة ركيكة مستهلكة من مثل قوله في دعائه لله فمر سرّي المعاني أن يواتيني كما كان يقول للبارودي في مدحه فمر كل معنى فارسي بطاعتي وقوله أديماً حشوه هم وإنما يقال حشو برديه مثلاً لأحشو أديمه. . صاح الزوال بها وصاح الوهمي لا يسند إلي الزوال الوهمي، وهلم، هذه واحدة - والثانية أن معاني القصيدة كلها خالية من الإبداع والابتكار وما نرى فيها أبدع من هذا البيت في وصف الدولة الإسلامية:
تنبو المعاول عنها وهي قائمة ... والهادمون كثير في نواحيها