وعلى ذلك فلا ريب في أن الحرب هي منشأ لداء الانحطاط بين الجماعات وأن معظم الجنود العائدين من المعارك يحملون إلى أوطانهم أعصاباً مريضة، وهذه النظرية قد تكون أقل انطباقاً على الفريق الغالب منها على الفريق المغلوب لأن الشعور بالفوز من ألذ إحساسات النفس البشرية، ونتيجة هذا الإحساس اللذيذ من تجدد النشاط والقوة خليق أن يقاوم المضار الموبقة الناشئة من تأثير فظائع الحرب، ولكنه لا يستطيع محو هذه المضار البتة، وهكذا يعود الغالب والمغلوب إلى وطنيهما وقد خلف كل منهما على ساحة القتال جانباً عظيماً من قوته العصبية والأدبية.
إن تفشي الغلظة والوحشية في الشعوب غب الحروب قد أصبح من البديهيات التي لا تحتاج إلى دليل، فقد عرف الناس أن الشعوب المتحاربة تخرج من الحرب أسوأ أخلاقاً وأخشن طباعاً مما كانت عليه قبل، فيزداد في كشوف إحصائياتها تعداد الجرائم والفظائع، ولا يحسب أحد أن الجندي الذي يعود من الحرب سريع الغضب يسحب خنجره على الناس لأقل باعث - إنما يفعل ذلك لأنه قد صار أشجع قلباً وأخشن جانباً - كلا بل لأنه قد صار أشد تهيجاً، وقد أثبت العلم أن سرعة التهيج ليست إلا إحدى ظواهر الفساد العصبي.
ولما كان هذا الداء الانحطاط شاملاً لم يخل منه فريق المفكرين من الكتاب والشعراء والمصورين والموسيقيين فقد خرج جانب عظيم من مؤلفات الأجيال الحاضرة متلبساً بعاهات هذا الداء وشوهاته ومقاذره وهو على ذلك أروج من الكتب السليمة القيمة النقية وقامت الجماهير المصابة العليلة فأجلست على أريكة دولة الآداب والفنون رجالاً أدهشوا القراء ببدائع الخيال وروائعه ولكنهم أصفار من الآراء الناضجة والأفكار المنتجة الخصيبة مجردون من المبادئ القويمة والمذاهب السليمة منحرفون عن سنن الحق والمنطق والطهر والفضيلة يشحنون مؤلفاتهم بأصناف الباطل والخرافات والخزعبلات ويفعمونها فوق ذلك بأفانين الفسق والفجور والإثم والرذيلة، والجماهير الحمقى السخيفة تسميهم قادة الدنيا وأعلام الهدى ومصابيح المستقبل، وما هم إلا فئة من المرضى المصابين لولا مزية الخيال القوي والأسلوب الرائع لكان المستشفى أولى بهم من غرفة الكاتب والمؤلف.
فأوروبا الآن قائمة في حومة داء ذهني فتاك - أو بعبارة أخرى في حومة موت أسود من الانحطاط فلا جرم إذا تساءلنا ماذا يكون بعد ذلك؟