يروعك ويفتنك بأعجب البراعات وأبدع المزايا) وقال العلامة روبينوفتش أن المنحط قد يبلغ من حيث ملكات التفكير والتصور (أي الملكات العقلية) درجة عالية جداً ولكنه لن يكون من الوجهة الأخلاقية إلا فاسداً فساداً تاماً، فهو يستخدم ملكاته الباهرة سواء في أشرف الأعمال وفي أخسها وأحقرها.
أما منشأ هذا الداء (الانحطاط) فهو ضعف الأعصاب وانتهاك القوى وهما نتيجة لسببين رئيسين، أولهما الانهماك في الشهوات والملاذ وما يقتضي ذلك من معاقرة الخمور وتعاطي المخدرات وكد الأعضاء وإقلاق البال وتهييج العواطف وثانيهما ما كابدته أوروبا في القرن السالف وما تكابده الآن من الثورات والحروب ونحن قائلون هنا كلمة في شرح تأثير الحرب على الشعوب بإنهاك قواها وإضعاف أعصابها بمناسبة الحرب الحاضرة.
قد اكتشف العلم الحديث الأمراض العصبية الناشئة من صدمة عصبية كطروء خطر فجائي مثلاً، فأثبت أن كثيراً ممن نجوا من الغرق أو النار أو حوادث القطارات أو ممن هددوا بالقتل قد فقدوا عقولهم أو أصيبوا بأمراض عصبية خطيرة مزمنة عقيمة، فما بالك بمن يغشون ساحة القتال ويغامسون حومة الوغي وأنهم ليكافحون كل هذه الأخطار مجتمعة في وقت واحد، فهم يبقون الأشهر والسنين مهددين في كل لحظة بالعاهات الفظيعة والموت الذريع محفوفين بمناظر الخراب والدمار والغرق والنار والجراح المخيفة وكثبان القتلى مكدسة مركومة مما تهلع له القلوب وتطيش العقول، أضف إلى ذلك الأعمال الشاقة التي تستهلك قواهم وتستنفذ مجهوداتهم، من الزحف المؤدي إلى الإعياء والحفا، وسوء الغذاء، والقحط أحياناً، وقلة النوم، واهتياج العواطف، ولا يقولن معترض إن الجندي يكتسب بالاستمرار مرانة على استقبال هذه الأهوال حتى يصبح عديم التأثر بتلك الفظائع المحيطة به، فرداً على هذا الاعتراض نقول إن قلة تأثر الجندي تؤول بأن منظر الفظائع الماثلة أمامه قد لا يستفز شعوره ولكنه يقع في حواسه بلا شك وتنقله الحواس إلى المراكز العصبية فيترك أثره في الجهاز العصبي، فكون الجندي لا يشعر بالصدمة العصبية - بل بالتحطم العصبي - ليس دليلاً على عدم حصول الصدمة، لأنه كثيراً ما شوهد في حوادث القطار والحريق والغرق أن المصاب وإن فقد الشعور أثناء الصدمة فلم يحس بهولها إلا أن آثارها من الأمراض العصبية لا بد أن تظهر ولو بعد مرور الأشهر على حدوث الصدمة.