للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

لأعينهم اللهفى الظامئة، فهيهات للقلم أن يستطيع أن يرسم الصورة المخيفة التي بدت من القوم إذ رأوا مطلع الماء عليهم، وتجلت لأعينهم هذه الضالة المنشودة، وقد كنت أعلل النفس من قبل بأن بعض هذا الجمع، من أولئك الذين ظلوا حافظين لقواهم العقلية قد يعيشون حتى نهاية تلك الليلة ويشهدهم الصبح أحياء ولكني إذ رأيت ذلك الهول، توجست خيفة وأشفقت أن لا يبقى منا أحد يقص على الإنسانية قصتنا وينقل إلى العالم أمر هذه الجريمة العظيمة، وقبل أن يظهر الماء لم أكن أحس ظمأ شديداً إليه، ولكنني لم ألبث إذ لمحته أن علا ظمئي واشتد واضطرم ولم نجد وسائل لحمل الماء من القرب إلى تلك القاعة إلا باغترافها في القبعات، ونقلها في أجواف القلانس، بعد مدها من خلال قضبان النوافذ ولكن الماء لم يحدث إلا تخفيفاً عارضاً ولم يطفئ جذوة الألم إلا لحظة قليلة، وبقى العذاب على حاله، والعناء برمته، ولئن كنا نحمل الماء في القبعات من خلال القضبان، ونجلب في القرب مقداراً طيباً، ونملأ القلانس حتى حفافها، فإن ما كان بين القوم من التنازع والاحتيال على الظفر بالجرعات منه والحسوات الصغيرة من القبعات لم يترك في كل قبعة إلا قدر ما يملأ الفم، أو قدح الشاي، على أن هذه الغوثة كانت أشبه شيء بتقطير قطرات من الماء على النار المشبوبة، تزيد النار اشتعالاً واللهيب التهاباً، أواه، أيها الناس، كيف عمركم أستطيع أن أصف العذاب الذي أحسسته والألم العظيم الذي ثار في فؤادي للصيحات والوثبات والاعوالات والأنات التي زفرت وتصاعدت من أقصى القاعة، وأبعد أركان هذا المحبس، من أولئك الذين لم يستطيعوا مد أيديهم إلى الماء أو الاقتراب من القبعات، واستيأسوا من الظفر بقطرة تبل حلوقهم، واستعصت عليهم الحيل لنوال حسوة واحدة تخفف شدة ظمئهم، وهم يصرخون عليّ متوسلين، مستحلفين بجميع الأقسام المقدسة، مستصرخين بكل حرمات الود والحب والرثاء، وإذ ذاك أصبح الاضطراب عاماً مخيفاً مرعباً، وقد اشتد التدافع والتزاحم حتى أصبح غير محتمل، واندفع كثيرون من الذين كانوا وقوفاً في الناحية القصوى من الحجرة يطلبون وصولاً إلى النافذة فألقوا إلى الأرض كثيرين من أولئك الذين تهدمت قواهم، وتحطمت أعصابهم، فوطؤوهم بأقدامهم، وخنقوهم خنقاً، ولبثت من الساعة التاسعة إلى الحادية عشرة أنظر إلى هذا المشهد الفاجع ولا أستطيع شيئاً، وأنا أمد الجمع بالماء في القبعات وقد كادت ساقاي تتحطمان من أثر الضغط