للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الشديد عليهما، ولكن لم ألبث أن وجدت الجمع قد تدافع حتى كدت أختنق، ووقفت لا أستطيع حراكاً من مكاني، فلما أضواني التعب، وكدت أروح صعقاً، أجمعت أمري على أن أترك النافذة، وأخلي نفسي من أمر إمداد الجمع بالماء، فصرخت في القوم وتوسلت إليهم أن ينقذوني من هذا الضغط الخانق، ويدعوا لي السبيل إلى ترك مكاني إذا كانوا يشعرون بشيء من الاحترام لي، ويسمحوا لي بأن أفارق النافذة وأموت في مكان بعيد من الحجرة، فخلوا السبيل، وأزاحوا الطريق فاخترقت الجمع بكل صعوبة حتى بلغت بهوة السجن، حيث كان الزحام أقل منه في أركان الحجرة، من جراء الجثث التي سقطت موتى وهلكى تحت الأقدام، فركعت فوق جثة من تلكم الجثث وأسندت رأسي إلى جثة أخرى وأسلمت نفسي في ذمة الله العلي العظيم وشعرت بشيء من الراحة، إذ ارتقبت أن تكون آلامي وعذاب نفسي قد كادت تنتهي، أو لعلها على مختتم، وإنني عما قليل أستريح من إحساس الحياة، وإذ ذاك بلغ ظمئي أشده، وصعب تنفسي واختنق ولم ألبث كذلك عشر دقائق حتى أحسست ألماً في صدري وخفقاناً شديداً في قلبي، لا أستطيع تصويره، فنهضت من مكاني مكرها ولكن زاد الألم في صدري، وعظم الخفقان، واشتد الاختناق، على أن حواسي لم تتبدد، ولبي لم يذهب، وأحزنني أن لا أرى الموت مني على قاب قوسين، وآلمني أن أجدني لا أزال بحواسي، ولم أستطع احتمال الآلام أكثر مما احتملت، وللحال أجمعت على أن أخترق الطريق إلى النافذة المقابلة وبقوة أحسست أنها ضعف ما كنت أشعر به من شدة الأسر بلغت الصف الثالث دون النافذة، فتشبثت بقضبان الحديد، وبذلك كنت في الصف الثاني، ولم تكن إلا بضع لحظات حتى زال عني ألم الصدر، والخفقان في القلب، وصعوبة التنفس، ولكن الظمأ ما فتئ يتزايد ويعظم ويلتهب فرحت أصرخ بأعلى صوتي: الرحمة أيها الناس، الرحمة، شربة ماء، شربة ماء فحسبني الجميع هالكاً على محضر الموت، ومشرف المنون ولكن القوم إذ رأوني لا أزال واقفاً في غمارهم، أحسوا بأن الاحترام لا يزال واجباً لي، والعطف أخلق بمثلي، فصاحوا، أعطوه ماء، أعطوه ماء!. ولم يجرأ أحد منهم على لمس القبعة التي امتدت إليها الأيدي حتى اجترعت جميع ما فيها ولكن الماء لم يحدث ترويحاً، ولم يخفف ألماً، ولم يكسر حدة الظمأ، بل زاد ظمئي به وتفاقم واضطرم، فأجمعت على أن لا أشرب ثانية وإنما وطنت النفس على الصبر، وأسلمتها إلى الألم