للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ماثل لعينيه أينما كان، وصوته في أذنها أحلى من صليل الجدول الرنان، وممر النسيم على عذبات الأغصان، ومناغاة الأطيار في الأوكار، وهي إذا عزفت على المزهر فباسمه تنطق الأوتار وتردد، وإذا طرزت على المنسج فباسمه تملأ نسيجها وتفسد.

وإذا طرقت الباب علم من الطارقة قبل أن يجلوها على الباب ناظره الظمآن، ومن خلال نافذتها تعرفها عينه من أقصى مدى بأسرع من لمحة الصقر وأوحى من خواطر الأذهان، ويسهر الليل البطيء الكثير الأتراح، ارتقاب أن يسمع وقع قدمها الوثاب في الصباح.

بهذا الكمد والأسى مضت أشهر الربيع فطلعت نضرة الصيف على نضرة شبابهما ذابلة، وتجلت بهجة الطبيعة على بهجة جمالهما حائلة، وجعل كل منهما يسر غرامه إلى النجمة الساهرة والنسمة الخاطرة. ويقول هو لوسادته بلسان الدمعة الهامية، والزفرة الحامية

لا طلعت عليّ شمس الغداة يا إيزابلا إذا أنا لم أسمع نغمة الغرام من شفتك اللمياء

غداً أفوه لإيزابلا بحديث لوعتي، غداً أفض خاتم الكتمان عن مكنون وجدي وحسرتي

وما زال ذلك شأنهما حتى أبصر لورنزو إيزابلا وقد علاها البهار مكان الشقيق وزال عن عينيها لألآء الماس وعن شفتيها حمرة العقيق. وعراها هزال الأم الصغيرة الساهرة على رضيعها المريض تسكن آلامه. وتخفف أوجاعه وأسقامه، فقال لورنزو في نفسه ما أسوأ حالها، وما أسرع هزالها ليس لي أن أفاتحها على أني خليق أن أفعل فأبثها قصة صبابتي. إذا كان ما تخفيه الصدور يظهر في أسارير الوجوه فإن صحيفة وجهها لتنم عن أعظم الأنباء. وأفدح الأعباء، فلو أتيح لي أن أرقأ عبرتها وأشرب دمعتها، لكشفت كربها، ومحوت خبطها.

كذلك أسر لورنزو في نفسه ذات صباح ولبث سائر يومه قلق الأحشاء خفاق الفؤاد يسأل الله معونة على القول وقدرة على الإفصاح ولكن لسانه بقي أسسيراً في أغلال الهيبة كما بقي قلبه سجيناً في قبضة الطرب. كذلبك أمضى بالأرق والسهاد ليلته كدأبه وديدنه وفطنت إيزابلا إلى سوء حاله فقالت له في اليوم التالي ونار الغرام تضطرم في وجنتيها لورنزو! ثم حبس الحصر لسانها ولكن الفتى قرأ في لمحات لحظها ونبرات لفظها مكنون صدرها.

فقال: إيزابلا! أحسب أنه لا بأس عليّ الآن أن أبثك حزني وشجني إذا كنت تؤمنين بشي في هذا الوجود فأيقني أني أحبك وأن شغفي بك قد أشرف بي على الردى. وأنا لا أجرؤ