للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ونحن نبسط للقراء ما كان من أثر مدنية من أكبر مدنيات الشرق في تهذيب بلاد الغرب. وهي المدنية الإسلامية. ثم نعقب بذكر شيء من آثار الغرب في بلاد الشرق. لنتبين أي الفضلين أعظم، وأي الحضارتين خلعت على الأخرى المآثر والمكرمات والحسنات الكبار.

(٢) فضل الشرق على الغرب

من ناحية الأخلاق والآداب

إن هذه الأخلاق التي يعجب بها أهل الغرب ويفخرون بها وتلك الآداب الجميلة التي يعتزون بها ويتسامون من إفساح الطريق للسيدات إذا خطرن وتلقيهن بالحفاوة إذا قدمن وتقديمهن على الرجال في المجالس. وما على تلك الألوان المختلفة التي يظهر فيها أهل الغرب عبادتهم لنسائهم. ومن احترام الشيوخ وإكبار المتقدمين في السن، والعطف على الأطفال والرحمة بالوالدان. وتقديس الإيمان والأقسام والبر بالوعود وكراهية الحنث بالمواثيق وجملة تلك الآداب الطيبة كل أولئك أخذه الغرب عن الحضارة الإسلامية. يوم بثت آدابها في الشرق والغرب. وانحدرت إلى إسبانيا. فكانت تلك الدولة في وحشية وهمجية وانحطاط لا تجد لها اليوم مثيلاً في أواسط إفريقيا، فلما هبط المسلمون تلك البلاد نفض أولئك القوم عنهم بربريتهم واتخذوا آداب الفروسية ومطالبها شعائر لهم ورسوماً.

وفي العصر الذي قامت فيه الحروب الصليبية يشهد التاريخ والغربيون أنفسهم كما ذكر العلامة جوستاف لوبون أن الشرق كان إذ ذاك بفضل مدنية الإسلام ينعم بحضارة مشرقة النور فياضة الحواشي، مفعمة الروح بالآداب وألوان الرقي المختلفة، على حين كان الغرب مرتطماً في حمأة الهمجية.

ونحن ننقل هنا رأي صاحب كتاب حضارة العرب في هذا الموضوع إذ يقول: أما الشرق فلم يستفد أهله من أهل المسيحية في تلك الحروب شيئاً، بل لم يكن منها إلا أن أثارت في قلوب الشرقيين الاستخفاف بالغربيين. ولم يكن منها إلا العصبية الموحشة القاسية للأديان، وهو الأمر الذي ما فتئنا نحا ربه اليوم ونعمل على إطفاء جذوته. حتى هذه الساعة. ولكن الغرب استفاد منها أعظم الفائدة في التجارة والصناعة والعلوم والآداب ومختلف الفنون، وذلك بفضل مدنية الشرق. فالشرقيون هم الذين أخرجوا الغربيين من الهمجية وأنقذوهم من وصمة البربرية وأعانوهم على حضارتهم الحاضرة.