للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويقول المؤرخ العدل المنصف بارتلمي سانت هيلير: بفضل آداب العرب ومدنيتهم الإسلامية، استطاع سادات القرون الوسطى في بلادنا الغربية أن يخففوا من شر عاداتهم الوحشية. واستمد فرساننا من الاختلاط والمجالدة مع المسلمين جملة من العواطف الرقيقة والمشاعر العظيمة الجليلة والوجدانات الإنسانية التي لم يكن لهم بها عهد من قبل، ونحن في شك وريب من أن المسيحية وحدها هي التي أوحت بتلك الآداب، وارسلت فيهم روح تلك العواطف، لو لم يكن من حضارات الإسلام.

(٣) فضل الشرق على الغرب

في الآداب والعلوم والفنون

إن أهمية الأثر العظيم الذي أحدثته المدنية الإسلامية في الغرب لا تتيسر معرفتها وإدراك حدودها ومبلغ ما كان منها إلا إذا بسطنا للقراء حال أوروبا في العصر الذي دخلت فيه تلك المدنية أرض الغرب.

فإذا ألقينا البصر إلى القرنين التاسع والعاشر من التاريخ المسيحي وهو العهد الذي أشرقت فيه مدنية الشرق في إسبانيا فلا نجد شيئاً هو أقرب إلى المدنية في الغرب من تلك القصور العظيمة التي كان يسكنها النبلاء والسادات وهم في الجهالة يعمهون، حتى أن كثيرين منهم كانوا يعتزون بأنهم لا يتنزلون إلى معرفة القراءة والكتابة، وكان أعلم العلماء في ذلك العصر طائفة من القساوسة الفقراء كانوا يصرفون أيامهم في تلاوة كتب العهود القديمة واستظهار آداب العصور الغابرة قبلهم. ولم تنشأ للعلم في الغرب بواكر ولم تبدر له بوادر إلا في أوائل القرن الثاني عشر إذ بدأ أهل الغرب يفطنون إلى وجوب أخذ مبادئ العلم والمدنية عن العرب فكانت إسبانيا وصقلية وإيطاليا الموارد التي ينتجعون إليها لإصابة حظ من المدنية، وكانت هي السبيل التي نفذ منها العلم إلى أوروبا بأسرها.

ومنذ عام ١١٣٠ نشأت في قرطبة جامعة لترجمة أسفار العرب وتواليفهم وكان أثر تلك الكتب عظيماً، إذ فتح للغرب مغاليق علم جديد كانوا منه مقفرين وعرفوا منها فلاسفة العصور القديمة من الرومان واليونان وكانوا بهم جاهلين وراحت كتب العرب المنقولة إلى لغات الغرب، هي الموارد الأولى والمراجع الكبرى لجامعات أوروبا ومعاهد العلم في بلادها نحواً من ستمائة عام أو تزيد.