للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

القضاة وديوان الحسبة ودار الصناعة، وفي مينائها يربض أسطولها الأعظم، ومنها يغدو ويروح مختالاً في ثبج هذا البحر فيغزو ما شاء أن يغزو من جزائره وعدوته الشمالية - جنوب أوروبا - وهي لذلك كله وبفضل ما أحدثه المسلمون فيها من ضروب العمران تراها من أجمل المدن وأفخمها - فهي بهذه الجزائر أم الحضارة، والجامعة بين الحسنين غضارة ونضارة، فما شئت فيها من جمال مخبر ومنظر، ومراد عيش يانع أخضر، تتطلع لك بمرأى فتان، وتتخايل بين ساحات وبسائط كلها بستان، فسيحة السكك والشوارع، تروق الأبصار بحسن منظرها البارع، مبانيها كلها بمنحوت الحجر المعروف بالكذان يشقها نهر ينساب فيها مثل الحية المذعور، أو السيف المشهور، ويطرد في جنباتها أربع عيون زاخرة عليها أرجاء كثيرة لا تحصى.

بلد أعارته الحمامة طوقها ... وكساه حلة ريشه الطاوس

كأنما الأنهار في ساحاتها ... خمر وكأن ساحات الديار كؤس

وهي تنقسم إلى خمسة أقسام محدودة متباينة متجاورة، فقسم هو المدينة الكبرى التي تسمى بلرم، يسكنها التجار، وفيها المسجد الجامع، الذي كان في القديم بيعة للروم، وهو الآن لبديع ما فيه من الصنعة والغرائب المبتكرة من ضروب التصاوير وصنوف التزاويق التي أبدعها المسلمون فيه يعد من أعجب عجائب الدنيا النامة عن حذق العرب ومهارتهم في الصناعة إلى الحد الذي لا وراءه، في هذه المدينة وفي أقسامها الأخرى نيف وثلاثمائة مسجد ولم أر مثل هذا العدد في بلد من البلدان، ومن غريب الأمر أني كنت واقفاً في جوار دار أحد الفقهاء الأعيان في هذه المدينة وهو أبو محمد القفصي الوثا قي فبصرت فريباً من مسجده على مقدار رمية سهم عشرة مساجد، ومنها المسجد تجاه المسجد لا يفصلهما إلا الطريق وأغرب من ذلك أن من بين هذه العشرة المساجد، وغلى نحو عشرين خطوة من مسجد الفقيه القفصي المذكور مسجداً لابنه ابتناه ليتفقه فيه، منعزلاً عن أبيه، وهذا عمرك الله مما يستشف الناظر من ورائه أبهة القوم واعتزازهم بسلطانهم وأنهم سادة هذه البلاد ولا جرم كان ذلك باعثاً لهم على التنافس في المفاخر والمكارم وسائر خلال الخير والكمال، وهو معنى من المعاني التي يستتبعها الملك والغب والسلطان.

أما القسم الثاني من أقسام بلرم فهو المعروف بالخالصة، وهو مقام الوالي وأتباعه، وليس