للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فيه أسواق ولا فنادق، وبه حمامان، وفيه مسجد جامع مقتصر صغير، وفيه حبس الوالي ودار صناعة البحر والديوان. والأقسام الأخرى الثلاثة، فقسم يعرف بحارة الصقالبة، وهذا القسم أعمر من القسمين السابقين وأجل ومرسى البحر به، وآخر يسمى حارة المسجد، وثالث يسميه القوم الحارة الجديدة، وأكثر الأسواق في هذا القسم كسوق الزياتين والصيارفة والصيادلة والخرازين والصياقلة والنحاسين وسوق القمح وسائر الصناع على اختلافهم، وفي هذه الحارة الجديدة نحو من خمسين ومائة حانوت لبيع للحم وهذا مما يدل على استبحار العمران في هذه الجزيرة ورخاء أهليها وكثرة عديدهم، فسبحان المعز لمن يشاء.

ولقد حدثني الفقيه الوثائقي حديثاً يجمل بنا أن نجلوه لك الآن فقال: إن المسلمين لما فتحوا هذه الجزيرة، وبلاد قلورية من بر الأرض الكبيرة واستوثق لهم الأمر، ومدت لهم أمم الفرنجة يد الإذعان أخذوا حسب عادتهم في كل بلاد يفتحونها بنية الإقامة فيها، وإصلاح حال أهليها، في أن يستنقذوا هذه البلاد من تلك الحمأة المنتنة التي كانت مرتطمة فيها أيام حكم الرومان، فنشروا في البلاد ألوية العدل، وعمدوا إلى الزراعة فانتعشت بعد صرعتها، وإلى التجارة فهبت من رقدتها، وإلى الصناعة فانتاشوها من وهدتها، ووثب الأهلون وثبة كأنما أنشطوا من عقال، فكثرت الأموال واغدودقت الخيرات إلى الحد الأقصى، وافتن الناس فاتنانهم في ضروب الترف والنعيم واتساعالعيش والتأنق فيه والتلون بأزهى ألوانه. قال الفقيه: أما عدل المسلمين فإنك لتجد انصارة هذه البلاد لا يكاد المسلمون ينمازون عنهم بشيء، فالجميع يرتعون متبحبحين متحابين، وكل متمتع بعيشه وعقيدته وطقوسه فللنصارى كنائسهم كما أن للمسلمين مساجدهم، وإذا جاء عيد من الأعياد رأيت أعلام النصارى بجانب أعلام المسلمين، أما علم النصارى فقد صور فيه صليب مذهب في بهرة ساحة حمراء، وعلم المسلمين قد رسم فيه حصن أسود في ساحة خضراء، وأما نساؤهم فربما رأيتهن اليوم (الأحد) وهن ذاهبات إلى الكنائس، وقد تشبهن بنساء المسلمين لأن المغلوب كما تعلم مولع دائماً بتقليد الغالب، فانتقبن بالنقب الملونة، وانتعلن الأخفاف المذهبة، ولبسن الحرير الموشى بالذهب، والتحفن اللحف الرائقة، وتزين بكل ما يتزين به المسلمات:

إن من يدخل الكنيسة يوماً ... يلق فيها جآذراً وظباء