عينه هذا الخادم فذعرت لذعره ثم قال الخادم إن الأمير يدعوك الساعة إليه ومعك ضيفك المصري، فقلت للفقيه أثم ما يخاف منه فأفرخ روعي وقال الآن لا أظن ثمت شيئاً أكثر من رغبة الأمير في أن يستطلع منك طلع مصر والمصريين، وأميرنا حفظه الله من خواص أهل الأدب وعليتهم، وإنه لذو حظ عظيم من رجاحة العقل وسجاحة الخلق يحب الأدباء ويقربهم إليه ويتحدث معهم كما يتحدث النظير مع النظير، على أن اليوم في صقلية كأنه عيد من أعياد الأهلين، إذ كان قد ورد من أيام على الأمير كتاب من أمير المؤمنين المعز لدين الله يأمر الأمير فيه بإحصاء أطفال الجزيرة وأن يختتنهم ويكسوهم ويحبوهم بالعطايا في اليوم الذي يختتن فيه ولد أمير المؤمنين، فكتب الأمير خمسة عشر ألف طفل ثم اختتن ولده وأخوته، وقد أمر اليوم باختتان سائر أطفال الجزيرة وخلع عليهم وفرق فيهم مائة ألف درهم وخمسين حملاً من الصلات وردت عليه من أمير المؤمنين فكيف نتوقع شراً من الأمير في مثل هذا اليوم المبارك.
وقد كان مع الخادم بغلتان فارهتان من مطايا الأمير وقد جللتا بالديباج وحليتا بالفضة، فركبت أنا والفقيه وسرنا حتى وصلنا إلى دور الإمارة فوقعت عيني على شيء لم تقع على مثله من قبل:
قصور كالكواكب لامعات ... يكدن يضئن للساري الظلاما
* *
وقبة ملك كأن النجو ... م تفضي إليها بأسرارها
لها شرفات كأن الربيع ... كساها الرياض بأنوارها
* *
كأن جن سليما الذين ولوا ... إبداعها فأدقوا في مغانيها
ولما أن وصلنا إلى دور الإمارة اشار علينا الخادم بالنزول وأسلمنا إلى الحجاب فساروا بنا في ممر مفروش بالصحباء، تتخللها الفسيفساء، ثم سلكوا بنا حدائق فيحاء، مترامية الأنحاء، قد اغلولبت فيها الأشجار، وتعلقت بأغصانها الأطيار، وانسربت فيها الجداول، واعشوشبت فيها النجوم والأزهار.