معنا جميلة سديدة لأنه يعلم أن الملوك إنما هم خدام الرعية فكيف يظلمونها ويستجيزون كيدها ولم يستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ على أن كافوراً ليس هو وحده الذي ينهض بأعباء الملك، وإنما يشد إزره، ويشاركه أمره، وزيرنا الأعظم، أبو الفضل جعفر بن الفرات وغيره من رجالات الدولة. فقال الأمير: ولكن أليس أليق بكم وأسمى وأنبل أن يلي أمركم ابن بنت رسول الله صلى الله علية وسلم أمير المؤمنين المعز لدين الله، وأنت تعلم أيها الأخ أن العباسيين قد ضعف أمرهم، وتضعضعت حالهم، والتاث عليهم ملكهم، وانتزى الأعاجم والأتراك على البلاد فاقتطعوا الممالك منهم وتفردوا بالأمر دونهم - أما عبد الرحمن الناصر صاحب الأندلس فقد اكتفى بما في يده من الممالك المترامية الأطراف، فلم يبق إلا أن يستظلوا بظل خلفائنا الفاطميين حتى يحموكم ويردوا عنكم طمع الطامعين. وهنا طار طائر الغضب إلى رأسي فلم ألبث أن اندفعت قائلاً: إن مولاي الأمير حفظه الله يعلم أنه إذا عد من أظلم الظلم وأنكر النكر أن ينقض جارح من الجوارح على وكر طائر آمن في سربه فيزعجه في سكنه، وينغص عليه عيشته، ويستلبه سراحه وحريته، ويضطرهإما إلى الظعن إلى جو غير جوه، أو الإقامة بجواره بين مخلبه وظفره، فإن من الظلم الذي لا ظلم وراءه أن تعدو أمة على أخرى وحجتها في ذلك أن تحميها من طمع الطامعين. أليس من السفسطة، وابعد ما يقال في باب المغالطة، أن يعدو قوم على قوم بحجة أن هذا العدوان إنما هو وقاء لهم من عدوان الآخرين؟ ولم لا تبدأ هذه الأمة بنفسها فتريح غيرها من عدائها إن مولاي الأمير ليعلم أن فطرة الإنسان معجونة بحب وطنه، ولذلك يقول بقراط: يداوي كل عليل بعقاقير أرضه، ويقول جالينوس: يتروح العليل بنسيم بلده كما تتروح الأرض الجدبة ببلل القطر، والكريم يا مولاي يحن إلى جنابه، كما يحن الأسد إلى غابه، فلا جرم أن يتغلغل حب مصر والمصريين في السواد من حبة القلب مني، حتى لكأني المعني بقول من يقول:
كأن فؤادي من تذكرة الحمى ... وأهل الحمى يهفو به ريش طائر
وكيف لا أحب بلداً ولدت فيه، وأرضه هي أول أرض مس جلدي ترابها وقد طعمت غذاءها، وشربت ماءها النمير، ماء نيلها المبارك الذي يعذر الأقدمون عن زعمهم أن الجنة منبعه انسرب منها إلى هذه الخضراء: