ولم يشأ بعد أن استطالت به العادة أن ينقع برنامجه ويهذب من خططه، إلا على أن ينام إذا انتصف الليل، وينهض من نومه في الساعة الثالثة من الصبح.
أما اللهو والتماس الابتسامة النسائية الحلوة في المرقص، وافتقاد النظرات النواعس من عيون الحسان في المقصف، والجلوس حول المائدة الخضراء تحت حمى القمار، فأي عار كان يراه في ذلك وأي معاب وأي ذام بل كانت بولونيا بولونيا المنكودة المعذية التي تعيش إذ ذاك أسوأ العيس، في الدرك الأسفل من الحياة، إذ وقعت فريسة بين ثلاث دول من الدول الجارحة بروسيا والنمسا والروسيا. وكانت تلك المملكة الأسيفة مفتحة معرضة لكل مغير فاتح. لا حول لها في داخليتها ولا قوة. لا تملك إلا ماضيها الفخم الرائع الجليل. والمفخرة الكبرى بأنها كانت قروناً وأجيالاً السور المنيع الناهض حيال أوروبا يمنع الإغارة الشرقية من ناحية تركيا والتي ظلت أبداً جميلة رفيعة فارسية كريمة. أرض الشعر ومملكة الشمس - تلك كانت الرؤيا التي تتراءى لذلك الفتة الملتهب المتوقد الجياش العاطفة، في أحلامه، وبولونيا كانت الحلم الذي يتجلى له في نجواه ومنامه. وجعل يصيح في أعماق فؤاده. ترى من الذي ينقذها وما السبيل إلى خلاصها! فإذا بلغت به النجوى إلى هذا الحد لم يلبث أن يتحمس فيرفع قبضة يده إلى الخريطة المعلقة فوق الجدار، والمصور الجغرافي الذي تلوح منه الدول الثلاث المفترسة بلاده العزيزة مهدداً مغضباً حانقاً. ثم يعود بعد أن تخفت حدة خلقه فيسقط إلى قراءة كتب فلوطرخس ويدفن وجهه في صفحات كتاب العظماء.
ذلطكم الفتى الذي حدثناكم عنه كان يدعى سادي كوشيوسكو، الوطني ذا القلب الحديدي ولد هذا الفتى في اليوم الثاني عشر من شره فبراير عام ١٧٦٤ في نوفومبرودك وعاش في ذلك الإقليم جميع عهد طفولته في الهواء (الطلق) والجو السجسج العليل والريف القروي الهادئ، بين أبيه وهو رجل من أهل الشرف والجندية، هجر العالمن وغادر عيش الجند، وأسلحة القتال، وأخلد إلى العزلة والحياة الساكنة، وبين أمه وأختين صغيرتين.
وكان له عم شيخ جعل يعود العشيرة الفينة بعد الفينة فيقضي أشهراًُ معهم ويعلم الطفل الرياضة والرسم واللغة الفرنسية، وزار يوماً صديق من أصدقاء أبيه، وهو البرنس آدم زارتوريسكي وكان رفيق الوالد في الجندية - بيت هذه الأسرة فرأى كوشيوسكو وراعه ما