للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

قرأ في وجه ذلك الصبي من أسطر القوة والإرادة، وتنبأ بما يضطرم في فؤاده من اللهيب، ويستعر من العاطفة، ولم يكن الصبي كوشيوسكو جميلاً على فتنة جمال، ولم تطن تقاطيع وجهه رائعة متناسبة، ولكن أي قدر عظيم، وقوة هائلة، كانا يتجليان على ذلك الوجه الروماني المعذب، كأنما جميع معارف ذلك الوجه تريد أن تقول (إنا من أولئك الذين يولدون ليكونوا أبطال المبادئ المقدسة، وليضعوا حياتهم في أيديهم، ولا يختموها إلا غزاة عظماء، أو معذبين شهداء).

وبفضل حماية ذلك الأمير زارتوريسكي دخل الفتى المدرسة الحربية فلما كان عام ١٧٧٠ كان من بين الفتية الأربعة الذين انتخبهم الملك لتأدية سياحة خارج البلاد على نفقته، فسافر إلى باريس ودرس دهراً في الأكاديمية الحربية بفرسايل ثم تلقن في مدينة برست فن الحصون والاستحكامات والفنون البحرية، وهناك في فرنسا يوم كان بها عام ١٧٧٣ سمع النبأ المخيف الهائل، الذي كان من صحته في ريب أيام نشأته الأولى، وهو نبأ تقسيم وطنه العزيز بين روسيا - وهي التي أصابت نصيب الأسد من الفريسة - وبين النمسا وبروسيا، فعاد إلى فرسوفيا عاصمة بولونيا حزيناً متألماً مجروح الكبد، وانزوى في نفسه، وأخلد إلى العزلة، وراح يمشي وحيداً متوحشاً نافراً مجتوياً العالم، غاضباً من الدنيا، حتى جعل يرفض الدعوات إلى الولائم، والذهاب إلى المآدب، ولا يلقى الناس، ولا يجلس في مجالسهم، بل قصر ساعات يومه على النظر والتفكير في شؤون فرقة الظوبجية التي عهد الملك إليه تقلد مقاليدها، والإخلاء إلى أبحاثه الحربية.

ولا عجب أن يقع هذا الشاب المعتزل الوحيد إذ ذاك فيحب ويحتبل في أشراك الهوة، كان هو الحب الوحيد الذي أدركه في حياته، وذلك أن الكونت زامويسكي أقام سنة ١٧٧٦ حفلة رقص عظيمة في يوم عيد الملك ودعا جميع ضباط المملكة إليها فلم يستطع كوشيوسكو أن يفر من هذه (السخرة) الدنيوية أو يتنصل من هذه الضريبة الاجتماعية فلم يكد يضع قدميه في بهو البيت المشرق بالأنوار حتى التقى نظره بوجه فتاة بولونية على فتنة عظيمة، وكانت الفتاة ابنة الجنرال العظيم سوستوسكي مارشال ولاية ليثوانيا. فلم يلبث أن وقع في حبها، كما ينتظر من تلك النار التي تحترق في خبايا قلب ملتهب مثل قلبه، فالتقى بها مرة أخرى، وأعاد اللقاء مرات، ورأى في أثناء ذلك أن حبه متبادل بينه وبين الفتاة قم لم يلبث