وأظهر البراعة التامة في شؤون الحرب، فلما انتصر في موقعة هائلة راح الزعيم الفرنسي بطل الحرية يسأل: من ذا يكون هذا الرجل الذي أبلى البلاء الحسن في هذه الموقعة!، فأجابه أحد ضباط أركان حرب الجيش ذلكم شاب فتى شهم مغوار بولوني الجنسية، أظنه يدعى، إن لم يخطئني حدسي الفتى كوشيوسكو فأجمع لافاييت على أن يرى هذا الشاب، فلما أمسى المساء راح يتنقل في المضارب، وينطلق من مضرب إلى مضرب، حتى دخل عليه في خيمته فألقاه وقد علاه التراب والدم، يفترش الثرى، ويمتهد الخشن من الأرض، ومنذ ذلك العهد راح الرجلان رسولا الحرية كوشيوسكو ولافاييت صديقين حميمين إلى الأبد.
وانتهى وطيس القتال عام ١٧٨٣ وظفرت أمريكا بنعمة الحرية والاستقلال بعد أن كان لهذا الزعيم البولوني العظيم فيها شأن يذكر، حتى أن واشنطن قبل أن يعتزل العمل، ويأوي إلى السكون والوحدة في بيته في مونت فرنوف أبي إلا أن يصافح يد ذلك الرجل البطل، وينادي به قائداً من قواد المدفعية، وعرضت عليه الولايات المتحدة لقب الوطني، وأذنت له في الجنسية الأمريكية، واستعدت لأن توظف له وظيفة شهرية مذكورة، وأقطعته أملاكاً واسعة وإيراداً عظيماً فلم يشأ كوشيوسكو أن يبقى في أمريكا، وهزه الحنين إلى وطنه، فسافر إلى ساحل فرنسا، ومن الهافر أسرع إلى بلوغ بولونيا، وقد سبقه إليها مجد مؤثل، وذكر طائر مطير البرق وأشعة الشمسي فاستقبله الجيش أي استقبال، ولكنه لم يطأ بقدميه أرض وطنه، حتى عاد إليه الرثاء لحالها، فأوى إلى عزلته الأولى، ولم يلبث أن أثار إذ ذاك حرباً عواناً على الروسيا التي أبت إلا أن تجعل من أمته شعباً ذليلاً مستكيناً متطامناً وأكره جيوش الروس مرات على التقهقروأوقع بهم القتل والذبح، وانطلقت حميته في قلوب جنده فما تركت قلباً إلا وقعت فيه، ولكن أين لهذا الرجل الوحيد، وجنده القلائل، القبل بتلك الجيوش العظيمة، ولذلك لا غرو أن ينهزم آخر الأمر، وكان من ذلك أن اتفقت الدول الثلاث على تقسيم بولونيا للمرة الثانية.
فلم يكن لكشيوسكو الحزين العاجز المتألم أن يقف يشاهد هذا التقسيم اشنيع في وطنه وهو مشبك الذراعين، ينظر صامتاً لا يحرك يداً، بل لم تشأ عيناه أن تنظر إلى ذلك الغزو البطيء الذي أعده الروس لوطنه ويرى قومه في ذل الإسار ويشهد أبناء وطنه يساقون إلى