الخسف، مشردين في رؤوس الجبال، معتصمين بالغاب الكثيفة، هاربين لواذاً من الطغاة، ورأت كاترين قيصرة الروس هذه الحمية في ذلك الرجل، الذي كان الوطنية مجسمة، والشرف ممثلاً، فشاءت أن تغريه بالمال، وظنت أن المفاتن والإغراءات قد تطفئ شعلة الوطنية في فؤاده، وتكسبه إلى صفوفها، وتشتري وطنيته بثمن بخس دراهم معدودات، وحسب أن إنعامها عليه بألقاب الشرف وأسامي النبل قد تحدث فتنتها فيه، وتطمسي على بصيرته فلا يرى، على أن كوشيوسكو لم يكن خلق لأمثال هذا الخزي، ولم ترتض طبيعته هذا العار المشنوء البغيض، فلا غرو إذا رفض مشمئزاً وهاجر أصدقاءه الجند، واعتزلهم وهو يصيح: رباه. . رباه أعني مرة أخرى أشهر سيفي لأجل وطني فتوجه إذ ذاك إلى دريسدن، ثم إلى لينبرج وهناك تلقى شهادة تثبت أنه فرنسوي الأصل، وهذا الإثبات منحته إياه لجنة الدفاع الوطني في مجلسها الذي انعقد في اليوم السادس والعشرين من شهر أغسطس عام ١٧٩٢. وعند ذلك قضى عاماً فارسياً جواباً أفاقاً فطاف ألمانيا طولها والعرض، وانحدر إلى إيطاليا فراح فيها ضالاً طوافاً هائماً يحمل وطنه في فؤاده ويتحسر على حالة أبناء أرضه، ويرتقب الفرصة التي تمكنه من الدفاع عنها مرة ثانية.
فلم يلبث أن وثب رجل من عرض العامة في بولونيا، وطني من الصفوف الأولى من الوطنيين المتقدمين حمية وإخلاصاً لبلده، صانع حبال يدعى كلينسكي، فجمع عشرين ألف صانع من صناع الحبال والخياطين والنساجين، فلما سمع السفير الروسي ريبنسين بنبأ هذا الثائر، حاول عبثاً أن يهدئ من ثائرته ويطفيء مفيه حميته للقتلا والدفاع عن الوطن، حتى دعاه آخر الأمر فلما مثل هذا الرجل العامي بين يديه، جعل ينظر إلى السفير نظرة اعتيادية ساكنة لا تدل على شيء من الاكتراث أو الخوف بل هي إمارة الاستخفاف والهدوء فلم يكن من هذا السفير الذي كان ملك بولونيا نفسه يرتعب منه ويفرق من خشيته، إلا أن قال مغضباً: أيها الرجل ألا تدري أمام من أنت الآن واقف؟ ولم يكد يتم عبارته حتى فك أزرار معطفه فإذا بسترته مفعمه بالأوسمة العديدة والنياشين!
وراح يصرخ في البولوني: إذن فانظر وارتعب!
ولكن لم يكن من ذلكالعامل البسيط إلا أن قال: لا أرى إلا نجوماً صناعية في صدرك، ولكن أرى مثلها في السماء، يا صاحب الفخامة، ولهذا لا أرتعب ولا أرتعد!.