واستثارت وحشية الروس القوم إلى القتال، إذ أصر مندوب القيصرة كاترين على أن يخفض عدد الجيش البولوني من ثلاثين ألف مقاتل إلى سبعة عشر لا أكثر، وكان يعني ذلك الأمر تجريد الوطن من السلاح، أو قل معناه العجز ثم الموت السريع!.
فثار الجيش البولوني واحتدم غيظه، ونهض منكراً هذا النير الثقيل حتى أن قائد فرقة الفرسان رفض في اليوم الثاني عشر من شهر مارس عام ١٧٩٤ أن يسلم أسلحته وانطلق مفلتاً من فرسوفيا حمي الأنف كبير الإباء، والتحم في موقعة دموية وجند البروسيان إذ أرادوا أن يحموه الطريق، ويمنعوه السبيل، واحتل راوا وانحدر إلى كاركوفيا وكانت الساعة التي كان أهل بولونيا يرقبونها ارتقاب الصديان للماء الزلال، قد دقت إذ ذاك وأذنت، فلما كان الثالث والعشرون من ذلك الشهر، كان كوشيوسكو في بهرة الجند والجيش، وكان قدومه ليلاً فلم ينم أحد من الأهلين ولم يشتمل سرير من السرر على الراقدين فيه، بل لقد كانت ليلة ساهرة ما يغمض فيها جفن، وما يتنزل النوم فيها على محجر أو عين، وقد أشعلت ألوف من المصابيح، ومشى القوم بألوف من المشاعل، وقد تردد في جميع أرجاء المدينة صوت عظيم أجش هائل يقول في واحد ليحيى كوشيوسكو ليحيى منقذ البلاد ليحيى المخلص، مسيح الوطن ولكن الرجل لم تشكره مشمولة ذلك الترحيب الحار البديع، بل أبى أن يضيع دقيقة واحدة وإنما هرع إلى إدارة محافظة المدينة وأقفل جميع أبواب كاركوفيا وجمع كل ما وصل إلى يده من الأسلحة، وأوحى إلى مجلس الشيوخ أن يجتمع بكل سرعة، فاجتمع وقدم إليه عصا القائد العام للجيوش البولونية، وخول له سلطة عرفية تامة، وفي جنح ذلك الليل، أمر بتجنيد شباب الشعب وفتيانه، بلا تمييز قوم دون قوم، أو إعفاء أبناء طبقة دون طبقة، وحدد السن من الثامنة عشرة إلى السابعة والعشرين ولم يكد ينبثق الفجر، وتبدو جيوش النور من المشرق حتى تعاهد القائد كوشيوسكو وجنده على الموت في سبيل الدفاع عن الوطن. فلما طلع النهار ألقى أمر بجمع ما في الخزائن العمومية من الأموال، ومصادرة ما في القصور من الكنوز وجمع الثروات الأهلية، وصادر بعد ذلك أموال الخونة المارقين، فاجتمع له من كل ذلك في بضع ساعات نصف مليار حشدها لقضية الحرية والاستقلال، ولم يلبث قليلاً حتى ترددت أصداء هذه النهضة في جميع أنحاء بولونيا، فهجر الصناع مصانعهم وغادر العمال الأعمال التي فيها