يمتهنون أنفسهم ويبتذلون، وهرعوا يطلبون الزعيم كوشيوسكو وفيهم من يحملون الفؤوس، وآخرون يشهرون المطارق والمعاول وأهطع القرويون والمدنيون والحضريون مشهرين سيوفاً، أو متنكبين رماحاً، وهجر الفلاحون في الحقول محارثهم ومناجلهم وتسلحوا بألوان من الأسلحة وكان كوشيوسكو إنما يريد من كل أسرة تتركب من خمسة أفراد فرداً واحداً، ولكنه رأى المتطوعين ينسلون إليه من كل مكان عارضين عليه نفائسهم وحياتهم مسترخصة في سبيل الحرية، وخامت النساء حلاهن، وهرعن يطلبن نصيباً من القتال، فما أروع منظر بولونيا يومذاك، وما أفتن ذلك القبس السماوي الإلهي الذي تجلى في أفقها!! وكذلك انتصر كوشيوسكو في المعارك الأولى، وشق طريقه إلى فرسوفيا ففتحها على صرخات الجيوش (كوشيوسكو والحرية) ولكن أبى القضاء إلا أن تغلب الكثرة، وينتصر الأكثرون نفيراً فسقطت في أيديهم كركوفيا في أيدي الروس، ولم يبق للبولونيين إلا الدفاع عن فرسوفيا، فلما كان اليوم التاسع والعشرين من شهر سبتمبر خرج كوشيوسكو من فرسوفيا في عشرين ألف مقاتل وأرد أن يخطب جيوشه ويلقي إليهم كلمة واحدة هي كلمة (التوديع) إذ راح يصيح في ذلك الحشد العظيم رفاقي الشجعان! وأخوان السلاح الأعزاء، هل تريدون أن تنقذوا معي الوطن، وتحتفظوا بالعهد الذي عاهدنا، وهو الانتصار أو الموت والبوار، فمن كان منكم متردداً، أو ذا قلب هواء، أو مزعزع الحمية، فليخرج من الصفوف ويلقي السلاح جانباً، ونحن آذنون له في أن يعود إلى داره وعشيرته التي تأويه! فلم يخرج من الصف رجل واحد! بل صاح الجميع نحن معك أيها القائد إلى الموت، وعلى مشرق الضياء أقسم كوشيوسكو إلا أن ينقذ الوطن أو ليموتن، وانطلق القوم في أثره يهتفون الأنشودة الأهلية التي مطلعها بولونيا لن تموت.
واستبسل القوم في الدفاع ولكن الجيوش العظيمة التي وقفت حيالهم جعلت تنقص من أعدادهم شيئاً فشيئاً حتى لم يبق لكوشيوسكو من جنده إلا خلق قليل، ولكنه جعل يقاتل ويثب ويناضل، وهو في لباس الجندي البسيط ولكن هل كانت تغني عنه شرذمته القليلة إزاء تلك الغابات الإنسانية المتكاثفة المتحركة، ولهذا لا غرو أن يقع في المعركة الأخيرة جريحاً، إذ طارت قنبلة فالتهمت كتفه، وتلقى ثلاث طعنات من الأسنة في صدره، وكاد القوزاق أن يجهزوا عليه، لو لم يعرفه رجل من جيش العدو فصاح بهم أن لا يقتلوه، فحمل