الوجهة عين ما أصاب المسيحية. فجعل الدين حرفة وصناعة بعد أن كان عقيدة يعمل بوصاياها وتعاليمها، وأصبح مراسم ومظاهر بعد أن كان عبادة باعثها الإيمان والإخلاص والتقوى وإتيان ما فيه الخير للناس رغبة في الخير وابتغاء مرضاة الله. قد انطفأت جذوة الغيرة على الدين والاستهامة في حب الله والإيمان به وبرسوله وقد انعدم ذلك الإخلاص الذي لولاه ما انمازت حياة البشر عن حياة البهائم - الإخلاص في صدق العمل وصدق التفكير والنية. إلا أن مسلمي هذا الزمان قد جهلوا الروح وتشبثوا باللفظ فبدلاً من سلوكهم في الحياة المنهج الأرشد الذي أوضحه لهم أستاذهم وبدلاً من نهوضهم إلى الدرجة العليا التي أبانها لهم. وبدلاً من اتباعهم المثل الأسمى والنموذج الأسنى الذي شرح لهم ذلك الأستاذ الجليل - بدلاً من الطموح إلى أشرف الأعمال وأكرم الفعال والأخذ بالصلاح والتقوى ومحبة الله ومحبة الناس من أجله تعالى - بدلاً من كل ذلك جعلوا أنفسهم عبيداً للمصالح الشخصية والأغراض السياسية والمظاهر السطحية الباطلة، ولا غرابة في أن صحابة محمد حين أدهشهم بروائع خصاله وفعاله فملأ قلوبهم عجباً وإجلالاً أخذوا يقدسون أفكاره وأعماله العادية وطريقته في العيشة ودقائق تصرفاته في حياته اليومية ويسجلون كل ذلك ليكون مثالاً للناس ونموذجاً وقدوة فجعلوا ينقشون على صفحات القلوب تلك التعاليم والأوامر والوصايا والقواعد التي كانت تمليها ضرورات الأحوال ومقتضيات الظروف إذ ذاك في أمة صغيرة حديثة النشأة. فأما ما يزعمه الزاعمون من أن أكبر مصلح أخرجته الدنيا وأعظم مؤيد لسلطان الحق والعقل والمنطق - الرجل الذي صرح بأن الكون محكومة ومنظم بقوانين ونواميس وشرائع وأن ناموس الطبيعة إنما يقتضي التطور والارتقاء والتقدم - نقول أن ما يزعمه الزاعمون من أن رجلاً هذه صفاته وأعماله كان يتصور أن تلك التعاليم والوصايا التي أوحت بها مقتضيات الضرورة في أمة شبه همجية يصح أن تبقى على حالها بلا تغيير ولا تبديل إلى آخر الدهر - إنما هو حكم جائر على نبي الإسلام - أو كما قال الشاعر هذا محال في القياس بديع.
كان محمد أدق الناس فطنة وأنفذهم بصراً باحتياجات ومطالب الرقي والتطور في هذا العالم وما تقتضيه تقلبات أحواله الاجتماعية والأخلاقية - وكان أعرف الناس بأن ما نزل عليه من الوحي ربما كان لا يلائم كل ظرف ولا يناسب كل موقف ولا يصلح لمعالجة كل