الحالة الأولى لا بد أن يتسرب من منافس المثانة فيخرج بعضه من حيث يدخل الهواء فيحل محله نتف متفرقات من المعلومات العامة - فهذا ما لا بد من أن يحدث ولو عصبت دماغ ذلك الأخصائي وحصنته ولففته في خمسين غلاف من دبلوماته العديدة المصنوعة من الجلد السختيان أو المسكوفي. هذا رأيي ومعتقدي وإني لأقسم لك بأغلظ الإيمان أنه ما لم يمزج الطب بشيء من البديهيات والتجارب وما لم تمزج العلوم الدينية بشيء من الأمانة والصدق فلسوف ترانا نحن الأمة نثب ونثور فننقض على ما تحتوي هذه الصروح الثلاثة - الدب والدين والقضاء - من شرفات الهذر والهراء والهذيان بالمعاول والفؤوس والقضب والصوالجة فندمرها تدميراً ونردها أنقاضاً مهدمة كأن لم تغن بالأمس.
إذا أراد المرء أن يكون من مذهب المحافظين (الذين يذهبون إلى وجوب إبقاء القديم من العادات والمذاهب والنواميس والشرائع) فليكن في ذلك معتدلاً أي أنه لا يكون جامداً البتة. فإما أن يترك الإنسان مصارف روحه وبالوعاتها مسدودة ونوافذها مغلقة فيحجب أشعة النور من المغرب وأنفاس النسيم من المشرق - ويترك الفيران مطلقة تعيث وتفسد في مخازن المؤن والذخائر، والديدان والحشرات تملأ بطونها في الحجرات والمقاصير، والعناكب تحيك نسيجها وتضرب خيامها على المرايا حتى يتولد تيفوس الروح بسبب الإهمال فنغط في سبات غشيته. أو نهذي في حميا سوريته، فذلك ما لا يصح لعاقل قط أن يفعله.
لقد أطلت الكلام جداً وأفرطت إطناباً وغسهاباً. ولكن ذلك دأبي وديدني ولا عجب فأنا أستاذ المائدة وماذا عسى تنتظرين من أستاذ ميدانه قاعة التدريس وأفراسه كرائم الكلم المهذب وغاياته دقائق المعنى البديع وقد قضى أيامه يتكلم وغيره ينصت، لا أنكر أن ذلك قد يكون من معايبي ولكن لا حيلة لي وليس في طاقتي تغيير خلقي.
ولقد أذكر كلمة قالها لي صديقي وسلفي في زعامة أصحاب المائدة أعني (المتصرف في نادي المائدة) بهذه المناسبة وفي هذا الصدد إذ قال لي ذات مرة: خبرني أيها الأستاذ، أرأيت إذا كنت تقول ولا تصغي لقائل وتسلب ذهنك حلي الحكمة ولا تكسوه من أسلاب غيره من اللباب الحالية وتستنبط مت ينابيع صدرك ثم لا تمدها بفيوض القرائح الثجاجة، ألا تخشى أن يصاب ذهنك يوماً ما بالجدب والمحل وبالعقر والعقم؟ سأحدثك بحديث لي