الغادرة. والأقضية مهما أسعفت فهي الخاترة الخافرة. وأن الحظ وإن نهض أحياناً فلا تؤمن عثرته. والجد يتلألأ أزماناً ثم تأفل نجمته.
ولكن يروعني منك ثباتك في اللأواء ورسوخ طودك تحت الزعازع الهوجاء مظهر أقصى حكمة الفيلسوف وما تعلمت فلسفة في مدارس، ولا تلقنت مذاهبها عن عامل في فنه نبراس. وساء نعدها منك حكمة أو قسوة أو جموداً أو ركوداً أو عزة وكبرياء فإنها والله لخلة روعاء فيها كيد الحسود، رغم أنف المبغض اللدود وهي أشد على الأعداء من حصد الجماجم، وأمض للأعداء من حز الغلاصم. لله أنت ومواكب الأعداء محتشدة تنظر إلى هزيمتك وتريد أن تشمت بك وتسخر من تضاؤلك وخشوعك فإذا بك قد كذبت ظنونها وأقذيت عيونها بنظراتك القوية الطامحة المنبعثة عن عيني أجدل أو عقاب يرامق عين الشمس فيبهرها حدة وثقوباً وأذبت شحمة أكبادها باستهانتك بالخطب الجسيم واستهزائك بالكرب العظيم.
أيها الرجل الجليل! لقد رأيتك في بلواك أعظم منك في نعماك. ولكن سكينة المنفى وهدوء العزلة هو جحيم الرجل المتوقد الذهن القلق الجنان، إلا أن في النفس لجمرة تتألق، وعاصفة تثور وتياراً يتدفق، تأبى أن تنحبس بين جدران وعائها الضيق، ولكنها تطمح إلى ما وراء الحد اللائق، ودون غاية الملائم الموافق، فمتى اشتعلت هذه النار ففار بركانها، واندلع لسانها، وطمح دفاعها وطار شعاعها أصبحت ولا وقود لها إلا المخاطرات المهيبة، والمجازفات الرهيبة، ففي هذه تستطير وتمرح وتبتهج وتفرح ثم لا يجيئها الملل والضجر إلا من ناحية الراحة وطريق السكينة إن هي إلا حمى في صميم الفؤاد شؤم على حاملها وعلى كل من صحبه وتبعه.
هذه الحمى هي الأصل في ظهور مجانين العظمة والبطولة الذين تركوا الأمم والشعوب مجنونة بتأثير عدواهم! أولئك هم الغزاة والملوك وأرباب الملل والنحل والمذاهب والسفسطائيون والشعراء والساسة وكل من إليهم من أولي النفوس الثوارة والقلوب الجياشة، من اتخذوا العالم لعبة وأضحوكة، وأضحوا هم أنفسهم ضحكة العالم ولعبته، وخدعوا النوع البشري وسخروا منه وكانوا أثناء ذلك مخدوعيه وسخرته، يحسدهم الناس وهم بالراحة أولى! أي لذعات ولفحات تحز وتأكل في قلوبهم، أما وربك لو فتح لك قلب