من هذه القلوب فأبصرت ما به لألفيته مدرسة تعلم من شهد قاعاتها الحزينة كراهة الزعامة والسلطان، وتلهم من قرأ صحائفها السوء إبغاض التاج والصولجان.
أولئك المجانين العظماء - أنفاسهم القلاقل والاضطرابات وحياتهم زوبعة هوجاء على ظهرها يركبون فيعصفون حيناً في ميادين العالم ثم يهبطون فيسكنون ولكن جرثومة القلق والطماح والشرود والجماح لا تزال بعد كامنة في صميم أفئدتهم تلدغ وتلسع كحمة العقرب وناب الفعوان فإذا رأيتهم في دار عزلتهم رأيت الليوث الضراغم في أقفاص الحديد حيرى مولهة تارة تجول من القلق وتصول. ومن فرط التبرم تهمهم وتدمدم وتغمغم. وتارة تخشع فتستكين. وتطرق إطراقة الحزين، دأبها ذلك حتى تموت كالسيف الحسام ينبذ في زوايا الإهمال فيصدأ ويتآكل ويذوب ويضمحل
كالنار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله
من ارتقى إلى قمة الجبل وجد أعلى ذرا ملتفعة بالسحاب. ملتفة في الثلج والضباب، ومن ساد الناس وأخضعهم كان جديراً أن يجد نفسه مبغضاً مكروهاً. فهو وإن أشرقت فوق رأسه شمس المجد والفخار. وانفسحت تحت قدميه الأرضون والبحار يظل في وحدة ووحشة لا يحيط به إلا صخور الثلج وجلامد الجليد ولا يحيي أذنيه سوى دوي العواصف وضجيج الرعود القواصف، حيث تصدم رأسه العاري هوج الأعاصير وتلطم وجهه الحاسر نفحات الزمهرير. وهذا كل جزائه على بلوغه القمة العلياء.
أيها المرددون ذكر الغرام والود، والمجد والسؤدد، خبروني عن معاني هذه السماء؟ هل هي بروق كاذبة ما إن تزال حولنا تومض وتخطف تلمح فوق رؤوسنا وقلما تهبط علينا فتقف. يا رحمتا لنا بني الإنسان نرفع أبصارنا إلى هذه البوارق الخلب ونحن بالتراب لاصقون، وإلى أديم الأرض مغلولون، فتتلألأ لأعيننا المبهورة أنوارها العديدة الألوان والأشكال، وتدهش ألبابنا الحائرة أشبحها الجمة الإبهام والأشكال. ثم تضمحل بغتة فتزول وتتركنا لا نعرف ما نقول.
لو علم الناس حقائق الأمور لبكوا على إني إلى الضحك من هذه الحياة أميل. . ولا حرج علي ولا جناح. إني لأضحك من كل ما في الوجود لأني أعلم أن الوجود بحذافيره ورمته ما هو إلا شبح وخيال.