الفقيه: إن فلسفة المعقول راشناليزم تخطئ كل الخطأ من افتراضها أن الدين يزعم أن رموزه وخرافاته هي حقيقة مطلقة. وبناء على هذا الفرض تشرع الفلسفة المذكورة عند نقدها الدين في محاولة إثبات أن تلك الرموز والخرافات كاذبة عارية عن الصحة أو أنها إذا سلم بصحتها فهي لا تعدو كونها سخافات. وأما الواقع فهو أن الخرافة والرموز عناصر أساسية للدين ولكن بشرط أن تقوم بسد الاحتياجات الروحانية لبنى البشر فتشغل مكان الحقيقة الفلسفية المحضة التي هي غاية في الصعوبة ومستحيلة المنال.
الفيلسوف: نعم تشغل مكان الفلسفة المحضة كما تشغل الرجل الخشبية مكان الرجل المبتورة. أنها لأسوأ عوض عن الرجل الطبيعية ومع ذلك فهي تطلب أن تعد بمثابتها وأن تعطى مكانتها. ومع هذا فهنالك فرق بني المشبه والمشبه به - وذلك أنه بينما ترى أن الرجل الطبيعية أسبق وجوداً من الخشبية فإن الدين لم يزل في كل بقعة أسبق عهداً من الفلسفة.
الفقيه: قد يكون هذا صحيحاً ولكنك لا تنكر أن الرجل الخشبية عظيمة القيمة عند من لا رجل له. ولا تنس أن حاجيات الإنسان الروحانية لا بد من سدها - غذ أنه يجب تحديد نطاق فكره لا أن يترك مبهماً غير محدود والإنسان العادي معدوم ملكة الحكم الصحيح التي تمكنه من وزن الأسباب والعلل والتمييز بين ما هو حق وما هو باطل.
وفضلاً عن ذلك فإن الأعمال والواجبات التي تفرضها عليه الطبيعة واحتياجاتها لا تترك لديه فراغاً لأمثال هذه المباحث ولا فرصة لإحراز العلوم والمعارف التي تمهد السبيل للاشتغال بالمباحث المذكورة. ولذلك فلا موضع البتة لتصورك أن مثل هذا الإنسان يمكن إقناعه بالأسباب والعلل فلم يبق له والحالة هذه إلا الإيمان والتسليم بأقوال الثقات بلا بحث ولا جدال.
وهنا وصلنا إلى مذهب فلسفي صحيح فأحللناه محل الدين فإنك ترى تسعة أعشار الناس يأخذونه قضية مسلمة فيصبح كما كان الدين قبله مسألة إيمان وعقيدة بيد أن الثقة صفة لا تثبن وتتقرر إلا بمرور الزمن وبتأثير ظروف خاصة فليس في طاقتنا أن نلصقها بما لا مزية له سوى الحجة والبرهان.
وعلى ذلك فلا يصح لنا أن نعزوها إلا إلى ما نالها بمضي العصور، ولو لم يكن إلا حقيقة