للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

والظروف والصدف وصروف الزمان وتقلبات الحدثان، وكلما رأينا قوانا تخور ومحاسننا تزول وآمالنا تبيد وشهواتنا تموت وخلاننا تدرج فتقبر - كلما رأينا ذلك دبت إلينا تدريجياً فكرة الفناء وبدأنا نشعر أننا هالكون.

في الذاهبين الأول ... ين من القرون لنا بصائر

لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأصاغر والأكابر

لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر

أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر

أرى الناس يضيفون إلى مخافتهم الطبيعية من الموت نوعاً من الألم لا لزوم له ولا ضرورة - وأعني بذلك ما يظهرون من التوجع للفجيعة التي ستصيب أهلهم وأقاربهم لفقدهم إياهم. فلو كان الأمر مقصوراً على هذا فجدير بنا أن نريح أنفسنا من هذه الوجهة فإن مصاب أهلنا لموتنا أخف وأهون مما نتصور ولقد رأيت أن ما يكتب عادة على قبر الميت من أمثال هذه العبارة (تعزوا ولا تحزنوا علي يا أولادي الأعزاء ويا زوجتي الحبيبة) يعمل به دائماً وذلك أننا لا نترك بموتنا في المجتمع ذلك الفراغ الهائل الذي تخيله إلينا أنانيتنا تعظيماً لأنفسنا الضئيلة وتعزية لها بما توهمنا من اهتمام الغير بنا واكتراثهم لنا. أجل إن الفراغ الذي نتركه حتى في أسرتنا ليس من العظمة كما نحسب. فلقد رأيت الثلمة تسد والجرح يندمل في أقرب مما نتوهم.

سيعرض عن ذكري وتنسى مودي ... ويحدث بعدي للخليل خليل

بل أعجب من ذلك أن الفراغ الذي نتركه ربما عدا أحياناً في نظر الأسرة أفضل وأنفع من وجودنا وما أحكم ما قال الشافعي في هذا المعنى:

ستألف فقدان الذي قد فقدته ... كإلفك وجدان الذي أنت واجد

ألم تر إلى الناس كيف يظلون رائحين في الطرقات والشوارع في غد يوم وفاتنا كما كانوا يفعلون في أمسه والمجتمع بحاله وعلى عهده لا يرى فيه أدنى نقص ولا يحس. لقد كنا ونحن أحياء نحسب أن الدنيا لم تخلق إلا لنا، وأن الأرض لم تأخذ زينتها وزخرفها إلا لتقر أعيننا، وتشرح صدورنا، والسماء لم ترصع بسبائك اللجين ولم تزين بمصابيح الفلك إلا