للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

في قلوبهم. وما يجيش بنفوسهم من حميا الفتوة وغلواء البأس والمراح والهمة. لقد كان أولئك الأبطال يتمادون في ولوعهم بأمر ما ويلجون في شغفهم بوطر من الأوطار حتى يبلغوا بهذا الولوع والشغف أقصى درجات الجنون فيبذلون في سبيل إدراكه كل غال ونفيس من مال وروح إذ يرون كل ما عداه بخساً خسيساً بل حثالة ونفاية. فهم يتهافتون على سرير الموت كأنه سرير العرس. ويضحون بلا أدنى تأسف ولا تندم أنفسهم وغيرهم على منسك (مذبح) الغرام أو الشرف أو العقيدة أو غير ذلك مما يكون قد تملك قلوبهم من الوجدانات والعواطف. ألم تر إلى روميو كيف قذف (بزورقه المتعب المنهوك) على صخرة الموت لما رأى أنه قد فقد معشوقته جولييت وكيف طوقته هي بذراعيها في سكرة الموت وتبعته إلى ساحل الفناء. لقد كانت الفكرة تستولي على نفس الرجل فتستبد بها وتطرد كل ما عداها - ثم تصبح الحياة - بدون تحقيق تلك الفكرة - شيئاً تافهاً غثاً بل بغيضاً كريهاً. ورأيي أن مثل هذه الحياة أشرف وأجل من حياتنا لأن فيها من قوة الخيال وحدة الشعور والإحساس وصرامة العزيمة وشدة الجرأة على المخاطر والأهوال ما لا نظير له في حياتنا الموصومة بالجبن والحذر والنكوص والنكول والفتور والتراخي وحب البقاء من أجل ذاته الحقيرة الخسيسة القليلة القيمة. وإنه لخير لنا وأكثر بطولة أن نرمي إلى غرض جميل أو جليل فإذا أخطأنا المرمى وبؤنا بالفشل والخيبة تحملنا تبعة مخاطرتنا بجلد وقوة ورجولة - من أن نجدد عقد إيجارنا لحياة متعبة مضجرة مسئومة مملولة خالية من المتاع واللذة ومن السحر والفتنة قد يجوز أن نخسرها بعد ذلك في مشاجرة مرذولة من جراء غرض خسيس عديم القيمة، أفلا ترى فيما وصفناه من الاستخفاف بالموت والجرأة على مهاجمة شيئاً من روح التضحية والاستشهاد ونوعاً من سطوة التوحش وعرام الهمجية المعجبة الرائعة؟ ألم يكن للدين دخل في ذلك؟ - وما بالك بتلك العقيدة الخالصة التي تملأ المرء يقيناً بحياة آخرة تتضاءل إزاءها الحياة الدنيا حتى ترى المجاهد أو العاشق أو الفارس يهون عليه أن يخلع هذا الرداء الترابي ويلقي بروحه العارية في أحضان الأبدية وهذا ما يحجم عنه الفيلسوف العصري شكاً وريبة. وجبناً ورهبة مع كل ما يفخر به من حكمته ولبه وقضاياه المنطقية ونظرياته الفلسفية - أسلحة عاجزة يصبح بفضها أضعف قلباً وأوهن ركناً من المرأة. وخلاصة القول أن أحسن دواء لمخافة الموت هو أن يقدر