للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

لتنبسط وتخيم على أكناف العمر وكلما أقصانا عنها تيار الزمن كان خيالها أكثر لجاجة بالذهن وتشبثاً بالخاطر.

وسكان بريطانيا من أصل سلتي ففيهم طبائع السلتيين وأمزجتهم مثل الحزن الصامت الذي اشتهر عن الشعب السلتي والحياء والانقباض عن الناس لأنهم يعرفون بساطة نفوسهم وبعدهم أساليب المكر فيتحامون جانب الأجنبي عنهم لئلا يقف على سر تلك السذاجة فينتفع منها، والحياء من دلائل العواطف العميقة والوجدان الحي والإحساس القوي المندفع، وقد يصمهم من يجهل أمرهم بالجفوة وخشونة الجانب ولكن من يستشف قراره قلوبهم يرى وراء تماسكهم طبعاً سمحاً وماء صافياً وفؤاداً يجيش بالعواطف الرحمة والحب، ومن عاداتهم إكبار قبور آبائهم وإجلال ذكر أجدادهم واحترام المرأة وتوقيرها، وقد ورث شاتوبريان منهم هذه الطبائع كما ورث من أبيه العبوس والتقطيب ومن والدته التقوى والتدين وقد ولد في أسرة كريمة المناسب شريفة المحتد فورث أيضاً تقاليد تلك الأسرة.

روح العصر الذي عاش فيه - كانت أوروبا في الأيام التي أظلت حياة شاتوبريان تعاني عصور انتقال من أشد عصورها اضطراباً، وعصور الانتقال عرضة إسهام التطور الفجائي لأن سير الانتقال قد يسرع فتحدث التوراة وقد عاش النصف الثاني من القرن الثامن عشر وكان عصر الحاد وشك ومتناقضات إذ رفع فيه الإنسان من وجهة إلى مستوى الآلهة ومن ناحية أخرى رفع عنه آخر نقاب يستر عن النواظر وحشيته وحيوانيته وقد حدثت فيه الثورة الفرنسية تلك الأساة الكبرى وعاش النصف الأول من القرن التاسع عشر وقد كانت أوائل ذلك القرن الجليل الشأن المفعم بالحوادث أيام اضطراب وفوضى وكانت أعلام الملل تخفق في كل ناحية من أوروبا ولم يظهر شراح لفلسفة التشاؤم مثلما ظهر في ذلك الوقت، ومعرفة أسباب ذلك توقفت على درس العوامل المختلفة التي أثرت على ذلك القرن وأري أن هناك صلة شديدة بين تلك الآمال التي كانت مستسرة في النفوس قبل الثورة وبين تراميها إلى أبعد مطارح حسن الظن بإمكان تسويد مبادئ المساواة والإخاء والحرية ثم نكوصها على الأعقاب ويأس العالم من تحقيقها بعد ذلك وإنك لتقرأ في دواوين شعراء هذا العصر ما يملأ النفس ظلمة قنوط ويلهب الفؤاد حزناً وأسى في عصور الانتقال يخافون المستقبل فلا يعلقون عليه أملاً ويكون كرههم للمستقبل بقدر حبهم للماضي والعلة