للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

لا أستطيع في مستهل قصتي أن أكافح الحياء إذا ماجت بي أمواجه، فإن صفاء قلبيكما وسكون الطبيعة السائد حولي يغريان بي الخجل، وكم ستأخذكما الرحمة لي فإن ما استصب علي من الأمور وأحاط بي من القلق يكشفان لكم عن نفسي التعسة وجدي العاثر.

ومثلكما من قد تلون به الزمن، وتصفح الليالي، وعرف هموم الحياة قاطبة، فماذا تظنان بفتى في روق الشباب مجرداً من القوة، منسرحاً من إيراد الفضيلة، يرى نفسه في نفسه الجحيم الذي قد سجر أضالعه وأضرم أنفاسه، ولا يشكو إلا من آلام قد استدرجها إلى نفسه، وهيأ لها المتغلغل إلى سويداء قلبه، ولكن لا تفرطا في عذله، ولا تجاوزا في لومه الحسد، فكفاه من مرارة الألم ولوعة الحزن ما أرمض جوانحه، وألهب جوارحه.

لقد فجعت في والدتي ععند قدومي الحياة، وسحبت منها سحباً، وكان لي أخ قد خصه والدي بناصر الدعوات، وصالح البركات، لأنه أصاب فيه الولد البكر، وأما أنا فقد دفعت من ساعة مولدي إلى يد المربيات ولذا لم أذق نعيم الأبوة، ولم أنهل من حياضها العذبة الصافية، وكنت ناري المزاج غير متزن الأخلاق، تارة ضرب النفس طلق المحيا مرتفع الصوت دائب الحركة، وطوراً تدب نحوي ظلال الأسى السود فآوي إلى الصمت والإنطواء، وكنت أجمع حولي الغلمان لذاتي، ثم أنسل من غمارهم، وأعتلي هامة رابية لأعلق نظري بالسحاب السائر يطوى مراحل الفضاء، وليتسلسل في مسمعي دويّ سقوط الأمطار على أوراق الأشجار، وكنت إذا أظل الخريف أرتاد قصر أبي وهو يتوسط غابة في إقليم نائي مكان ويشرف على بحيرة، ولما كان يعتاق جناني الهيبة أزاء والدي صرت اسكن إلى أختي امليا وأصبح القرب منها مسلاة نفسي، ومتنفس خاطري وقد أربت عقدة الحب بيني وبينها مشاكلة أميالها لأميالي، وكان عمرها ينيف على عمري بسنوات قلائل، وكنا شغوفين بتسلق التلال وبالسياحة في نواحي البحيرة وكنا نجوس خلال الغابات ونتدرج في مسارحها تحت أوراقها الأشجار المتساقطة، وإن الأنس من الأشياء لا أنس تلك الأيام حيث رياض العيش خضر نواعم، ووجود المسرات وسيمات بواسم، وإن ذكرياتها لتملأ نفسي بهجة وسروراً، فلا فقدت يا أحلام الطفولة رونقك، ولا ألوت الأيام ببهجتك، ويا ذكر البلاد التي عقت بها تمائمي، ونضوت فيها الحداثة، لا تناول البلى بشاشتك، ولا عاث الزمان في زهرتك، وفي بعض الأحايين كنا نسير وقد ضرب السكون فوقنا أروقته