مسلفين الآذان لهمس الخريف واصوات الأوراق الجافة متلذذة التي كنا نطؤها بالأقدام في حزن، وأحياناً في تلك الملاهي البريئة كنا نتبع طير السنونو في البراري وقوس الغمام على القمم الماطرة، وكنا يروقنا أن نترنم بالأشعار التي كانت مشاهد الطبيعة تهتاجها في نفوسنا وقد نبتت في ثرى نفسي بذور الشاعرية، وليس هناك شيء أحفل بالشاعرية وما تتطلبه من من نضارة العواطف وغضارتها وصفاء النفس وابيضاضها من قلب لم يتبلج عليه أكثر من سبعة عشر ربيعاً، ولا غرو فإن فجر الحياة مثل فجر النهار، فياض بالطهر، ومفعم بالصفاء، مزدحم بالتصورات الجميلة غاص بالموسيقية والنغم. وكنت أسمع في أيام الآحاد والأعياد في الغابة الفسيحة الأرجاء، وبين أشجارها الفينانة، صوت جرس الكنيسة، وكان الهواء يستحمل إليّ دقاته من إقليم متراخية بعيدة الشقة، وكان ذلك الجرس يدعو المزارعين إلى انتحاء المعابد للصلاة، وكنت أستند على جذع شجرة من شجرات تلك الغابة صاغياً إلى رنات ذلك الجرس المتدفقة النقية، وكانت كل دقة من دقاته تحمل إلى روحي الصافية البريئة طهارة الحياة الريفية، فكنت كأنما أتنسم من تلك الدقات رياً شذاها، وكأن كل نبرة من نيرانه كانت تروي له عن سكون الخلاء وصمته، وتحدثني عن جمال الأديان وإشراقها ورونقها وبهائها، وتعيد في نفسي ذكر طفولتي الحزينة وأيامها المورقة الأيك والوريقة الضلال، وكيف لا يتزلزل قلب الإنسان مهما كان قاتم الأرجاء مظلم النواحي عندما تصلفح الآذان دقات جرس الكنيسة مقبلة من ناحية أوطانه البعيدة مآلف طفولته ومنازل قومه - ذلك الجرس الذي اهتز طرباً يوم ميلاده والذي أطار أنباء قدومه الحياة، والذي نقرأ فيه تاريخ أول نبضة من نبضات القلب، والذي نشر في شتى النواحي ومطرف الجهات سرور الأب الصالح التقي وآلام الأم ثم أفراحها التي لا يمكن لكاتب تصويرها، وإن صوت الجرس من ناحية الوطن يفيض على إحساساتنا من عواطف الدين والعائلة والوطن، ويذكرنا بالمهد واللحد، ويعيد لنا صور الماضي والحاضر.
ولطالما كنت أنا وامليا نصعد في صعود من تلك الأفكار الوقورة الرفيعة، قد رسب في قراره نفسينا ميل إلى الحزن قد نكون ورثناه من والدتنا أو أن يكون هبة من الله قد اختصنا بها، وفي تلك الأيام استكف والدي داء أعجله إلى القبر، وقد فاضت روحه وهو في ذراعي، ورأيت صورة الموت على شفة ذلك الوالد المتفضل الذي منحني الحياة،