للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الاضطرابات، استمال النفس للسكون، واستروحها الهدوء. وتقام هذه الأديرة في بلادي المفتوحة الأبواب للبائسين، المباحة الحمي للمستضعفين محتجبة في الأودية التي تحمل إلى القلب شعور هؤلاء التعساء المحزونين الغامضين، وكأنها تهجس في النفس وتوسوس في الخاطر بأملهم في الخلاص، وفي بعض الأماكن تشاد تلك المناسك على الربوات والرامات، فتظهر هناك الروح الدينية سامية الطرف تلعاء الجيد كأنها أزهار الجبل مرتفعة نحو السماء لتتسنم رياها العبق، وشذاها الفواح، وكنت أنظر الاقتران الجليل بين المياه والغابات من ذلك الدير القديم العهد الذي عقدت العزيمة على الإقامة به مجهول المحل مغمور الذكر نائياً عن تقلبات الخطوط وتصاربف الزمن.

ولقد كنت أطوف منفرداً نواحي ذلك الدير المنعزل، ولما كان القمر يريق أضواءه المفضضة على أعمدة الأروقة ويرسم ظلالها على الحيطان المقابلة كنت أتريث في السير متأملاً ذلك الصليب الذي يسم أراضي الموت، وكنت أرى الأعشاب الطويلة التي كانت تنمو بين أحجار القبور.

ولقد كانت تلك القبور قبور الذين عاشوا بمعزل عن الدنيا وعبروا بمدرجة الزمن من سكون الحياة إلى سكون الموت تملأ قلبي بضروب كره الحياة وصنوف احتقار العيش، ثم نكبت عن تلك الخطة ولست أدري إن كان باعث ذلك هو القلق المستمكن من نفسي أو سابق انحرافي عن حياة الأديرة، ثم قامت في نفسي فكرة السياحة والتطواف فودعت أختي وقد ضمتني بين ذراعيها ضمة تبينت فيها أثر السرور وظل الفرح كأنها كانت جذلة النفس لفراقي، وقد بعثني صنيعها هذا على إرسال الفكر في المحبة البشرية وتناقضها العجيب، ولما كنت الآن في عفرة الشباب محشوّ الجوانح من حماس وقوة امتطيت ثبج بحر الحياة المصطفق الآذي، والمتناووح الرياح، وما كنت أدري ثغوره ومراسيه، ولا أخطاره ودواهيه، فيممت أطلال الأمم التي سحبت عليها الذيول أرواح الزمن، وعصفت بها أعاصير الفناء، ورأيت بقايا رومه وآثار اليونان بلاد القوة والمجد التالد، والذكر المشرفات الخوالد، حيث القصور مدفونة في كثبان الرغام وحيث أضرحه الملوك قد أجنتها الأشواك، فهناك تتجلى قوة الطبيعة أزاء ضعف الإنسان، زهناك يرى المشاهد فصيلة من فصائل النبات نخنرق أحجار تلك القبور الصلبة وتنفذ منها، بينما قد أعيا رفات هؤلاء الموتى