للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الجبابرة الأشداء رفع تلك الأحجار والخلاص منها.

وفي بعض الأوقات يرتفع عمود عال ويخرق سماوة الجو في وسط الصحراء لا أنيس بها كما تنهض فكرة كبيرة من وقت لآخر في نفس قد نالت منها حادثات الليالي وهدمت صروحها صروف الزمن، وكنت أقضى اليوم مفكراً في تلك الآثار وبين لجج من التأملات وكنت أرى الشمس - تلك الشمس التي أبصرت بناء تلك المدن - جانحة للغروب تحفها الروعة والجلال لقد كانت تغرب الآن عن تلك المدن وقدر قمها الدهر في طراز العفاء وكنت أرى القمر يرتفع في صفحة السماء الصافية وكانت أشعته توضح لي مواقع القبور الشاحبة بين القارورتين المكسورتين وكان القمر ينير بسناه المفضض أحلامي وكنت ألمح شبح تلك العصور الغوابر إلى جانبي هائماً في بيداء التفكير ثم أمسكت عن الحفر في تلك التتوابي التي لم أكن أهز منها سوى رفات مجرمين ثم أردت أن أوازن بين الفضائل التي اكتسبتها من الأمم الحية وهل هي أكثر عدداً وأحمد أثراً من الفضائل التي تعلمتها من الأمم البائدة، وحاولت أن أقابل بين الأحزان التي تسربت إلى نفس من الحاضر وتلك التي خلصت إلي من الماضي فلما كنت يوماً أجوب نواحي مدينة من عظيمات المدن ومررت خلف قصر في فناء منعزل مهجور شاهدت تمثالاً يشير بأصبعه إلى مكان شهير بضحية من ضحايا التاريخ ووقد ملك صمت ذلك المكان عليّ مشاعري وغيض من جلادتي ولم أكن أسمع هناك غير أعوال الرياح وأنينها حول رخامه الذي كانت تخفق فوقه أعلام الحزن وكان هناك فريق من الصناع عند أقدام التمثال يستريحون في أكنانه ثم يعودون إلى تحت الأحجار وصقلها وكان يبدو عليهم لوائح عدم الاكتراث فسألهم ما شأن هذا فلحظت على أحدهم أنه يشق عليه أن بحدثني قصته وعلى آخر أنه يجهل النكبة التي ترجع أيام التمثال إلى عهدها.

وقد أصبت من تلك الحادثة المقياس الصادق لحوادث الحياة وتقلباتها للإنسان وقيمته وضآلة له قدرة وصغر شأنه إذ كيف كان مصير هؤلاء الرجال حين رن صدى ذكرهم في الكون فقد ضرب الدهر من ضربانه وكر كرته فإذا وجه الأرض قد جدد وبدل، وكنت أنقب في رحلتي عن رجال الفنون وعن الرجال ذوي الأرواح السماوية الذين غنوا الأناشيد للآلهة على مزاهرهم الجوفاء الرنانة وعن السعادة التي تهدلت ظلالها على هؤلاء القوم