للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الذين كانوا يجلون الشرائع ويفخمون شأن الأديان ويوقرون المقابر وقد صدرت هذه الأناشيد من شعب شعاره التقوى وفيها أثر تلك الموهبة التي تمنحها السماء للأرض ولقد كانت حياتهم زاهية مستنيرة بأضواء الإيمان السامي وقد تغنوا بأسماء الآلهة أفواد ملائكية وكانوا أعرق الناس في السذاجة وكانت أحاديثهم صافية كأحاديث الخالدين أو أحاديث صغار الأطفال وكانت لهم أفكار غريبة في الموت وكانوا يموتون وهم يجهلون الموت كما يموت المولود، وفوق جبال كاليدونيا غنى لي آخر مغن رن صدى صوته في تلك الصحراء أناشيد صاغها أحد الأبطال في تهوين آلام الشيخوخة وقد كنا جالسين على أربع مغشاة بالطحلب وكان هناك جدول تتسلسل مياهه عند أقدامنا وكانت الظباء ترعى على قيد منا بين بقايا حصن قديم وقد نشرت الديانة المسيحية أعلام السلام في تلك الأماكن التي كان بها للحرب والكفاح مستراد ومذهب - أما إيطاليا القديمة البسامة الثغر فقد برزت لي مبتكرات الفن وبدائعه وكنت أجوس خلال هذه القصور الفخمة التي نذرها الفن للدين ونفسي حشوها الرهبة والخوف المقدس فكم رأيت من العمد والأقبية وما اشجى هذه الأصوات التي كنت أتسمعها من تلك القباب ولقد كانت تحاكي صوت الأمواج في المحيط أو أنين الرياح في الغابات والأجم أو صوت الله في معبده ولقد كانت هذه القصور الشاهقات القوائم وتلك العمائر المستشرقات المعالم كأنها مصورة من مخيلة شاعر مهذب الخيال حافل الذهن ولكن ما الذي وعيته من الدروس بعد ذلك التعب والنصب وطيي الفيافي واختراق السهوب وركوب متن البحار؟ لم أجد ما أنيط به ثقتي عند القدماء ولم أر شيئاً عليه طابع الجمال وميسم الحسن عند المحدثين، فالماضي والحاضر تمثالان ناقصان الأول كسرته الأجيال السالفة والثاني لم يتسلم الكمال بعد من يد المستقبل وقد يشملكما العجب وأنتما من قطان الصحراء وروادها لأني في كل هذه السياجات لم أتكلم عن أثر من آثار الطبيعة. في يوم من الايام رقيت ذروة جبل أطنه حيث البركان المتنمر الثائر في وسط الجزيرة وقد شاهدت هناك مشرق الشمس في موكب الأضواء في الأفق المنبسط الممتد وكنت أرى صقلية صغيرة متضائلة كأنها بركة تحت أقدامي وكانت امواج البحر تتابع على مسافة وقد كانت الأنهار تتراءى لي كأنها خطوط على المصور الجغرافي. هذا ما كانت تلمحه عيني من جانب وأما في الجانب الآخر فكانت تطالعني فوهة جبل أطنه