مياه النهر ولقد كانت تتراءى لي صورتها في كل ما تأخذه العين وفي النجوم الزاهرات في صفحة السماء الجائدات بباهر اللألاء في كل وجوه الحياة ومناحي العيش وهذه الحالة مترجحة بين الهدوء والسكون لم تكن خيالية من أسباب السرور فقد كنت أخفف من غلواء أشجاني بتناول غصن من أغصان صفصافة كانت ترمي ظلالها على ضفاف جدول وكنت أعرى الغصن من أوراقه وكنت أرسل خاطرة وراء كل ورقة يجري بها تيار الجدول ولن يكن هم الملك الذي يخشى ضياع تاجه وانحلال ملكه بثورة تضطرم نيرانها ويتوقد جاحمها بغتة بأكثر من همى عندما كان يصادم الورقة وهي محمولة على التيار ما عسى أن يقطعها فما أضعف الإنسان وما أشد طفولة القلب الإنساني الذي تتبدل الأحوال وهو باق على حداثته لا تعلوه كبرة ولا يمسه هرم وانظر إلى أي طور من أطوار الطفولة قد يرجع بنا العقل وأنا كثيراً ما نعقد آمالنا بأشياء لا قيمة لها مثل أوراق تلك الصفصافة وإني ليعجزني التعبير عن تلك الطوائف المختلفة من الإحساسات التي كانت تتكاثر عليّ وتتغاير إليّ وإن أصداء نوازع النفس وأميالها في فضاء القلب موحش قفر مثل حشرجة الرياح وخرير الأمواه في سكون الصحراء وصمتها وإن تلك النوازع لتثور في أنفسنا ولكنا لا نملك التعبير عنها وقد أقبل الخريف وأنا بين هزاهز الحيرة ومعتلجات الشك واستقبلت شهر العواصف مفعم الخاطر ملآن النفس وكنت أغبط الراعي الذي كنت أراه يدفئ يديه في النار الكليلة التي أشغلها في الغابة وكنت أستمع إلى غنائه الفياض بالشجى والذي يقرع من النفس أوتار الحزن فيحرك ساكن الشجن ويوقظ راقد الألم وكان يذكرني غناؤه أن جميع الألحان الطبيعية مترعة بالحزن حتى تلك التي توقع عليها أنغام المسرات وأناشيد السعد وما القلب سوى آلة موسيقية غير تامة - مزهرٌ تنقصه أوتار السرور فترغم على أن نوقع نغمات السرور على تلك الاوتار الخاصة بالأنين والحسرات.
وفي النهار كنت أهيم على وجهي في الأراضي الجرداء التي تفضي إلى الغابات وقد كانت أشياء قلائل تستغرق تأملاني وتستأسر بأحلامي فمن ورقة جافة تذروها الرياح أمامي ومن كوخ يتصاعد منه الغبار إلى أعالي الأشجار الصلعاء ومن طحلب متعلق بأشجار البلوط الذي كان يهتز ويرتعش عند هبوب رياح الشمال ومن صخرة نائية منفردة ونهى مهجور تسمع فيه حفيف البردي الذابل وكانت قبة جرس الكنيسة القائمة في النواحي البعيدة