للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

تسترعي نظري وكنت أتبع نظري الطيور السابحة في الفضاء وكنت أصور لنفسي تلك الشواطئ المجهولة وأجواء تلك النواحي القاصية التي تؤمها الطيور وكنت أتمنى أن أكون محمولاً على أجنحتها وكان قد رسب في أعماق نفسي سر غريزي يكاد يصدع أركانها ويرجف جوانبها وكنت أشعر أني كمسافر له كل يوم جيئة وذهاب ورحلة ومآب ولكن صوتاً منحدراً من السماء كان يصب في مسمعي إن وقت سفرك لم يحن بعد فترقب هبوب رياح الفناء وعند ما تهب حوّل بصرك صوب تلك الأراضي التي يشتاق قلبك إليها وتنزو نفسك حنيناً إليها فهبي أيتها الرياح التي ستحمل رنيه إلى حياة جديدة.

ولقد كنت أقول ذلك وأنا سائر سيراً حثيثاً وعلى وجهي آيات الحماس والتوقد وكانتالرياح تعصف بشعري وتلاعبه ولم أكن أشعر بالمطر المتساقط ولا بالجليد وكنت أسير شارد اللب مُتّله العقل وكأنما شيطان قلبي قد امتد رواق سلطته على سائري وفي الليل كانت رياح الشمال تهب فتهتز الكوخ والمطر يتساقط غزيراً على جوانبه وكنت إذا اقتربت من النافذة أبصر البدر يشق السحب المتراكمة وينساب بين الغمائم السوداء كأنه زورق أبيض اللون يغالب الأمواج وكنت أشعر أن الحياة تزداد في أعماق نفسي وإني أصبحت من القوة بحيث أستطيع خلق أكوان ولم يكن إلى جانبي أحد أسر إليه تجاريبي فيا رب لو كنت وهبت لي زوجة طبق إرادتي أو فعلت معي ما فعلته مع ابي البشر آدم ومنحتني حواء من أضلاعي لكنت أسجد قبالة صاحبة ذلك الجمال السماوي وكنت أضمها إلى في ذراعي متوسلاً إلى الله أن يهبها الأيام الباقية من حياتي ولكنني كنت مستفرداً واحداً في الأرض واستحوذ على جسمي إذ ذاك فتور وعاودني الملل القديم الذي عرفته من عهد طفولتي مشدود القوى مستحصد المريرة وامتنع القلب عن أن يمد الفكر بعناصره الكريمة وكنت أتقرا وجودي بذلك الملل العميق في نفسي وكنت أناهض في نفسي هذا الداء ولكن بدون رغبة متينة في إخماد جمرته وقل شوكته.

ولما لم أجد ما يأسو جروح قلبي الكوالم التي يكن لها من جسمي مكان خاص بل كانت في كل ناحية منه عقدت العزيمة على الانتحار وأني الآن أسال الأب سويل أن يسامح بائساً غاب عنه صوابه ولقد كنت جافل النفس بالدين ولكنني كنت أسألك في التفكير مسالك الملاحدة والكفرة وكان قلبي يهوي الله ولكن عقلي كان ينكره.