للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وتقفوني؟ حسبك الله أما تسأم؟ أما تمل ألا تعفيني ليلة؟ ألا تعفيني ساعة؟

فخبرني بالله أي فائدة جنيت من هذه المجهودات والمحاولات؟ إلا أن العزلة لم تصنع أكثر من انها أرجعتني إلى الطبيعة وألقت بي في أحضانها. والطبيعة أرجعتني إلى الحب وأقلت بي في أحضانه.

فعندما دخلت المشرحة بذلك المستشفى (في شارع الأوبزفانس) فألفيتني محوطاً بالخبث أمسح يدي الملطخة بالدماء في أطراف منديلي أصفر الوجه بين الموتى وأكاد أختنق بروائح البلى المعفنة المنتنة أصابني من ذلك أعظم الكرب وضاق صدري فزويت وجهي عن هذه المشاهد الأليمة والتفت خلفي فإذا المروج الخضراء والحدائق الزهراء. والخمائل الغناء وجمال شمس المغيب في جلال سكينة الغروب فناجيت نفسي قائلاً:

كلا! كلا. لن يكون في معاهد العلم عزائي! فما بي والله غير جمرة الشباب وجزوة الصبا من داء. وداء الشباب لا علاج له ولا دواء. فدعني أحيا حيث لجة الحياة زاخرة وريح الحياة ثائرة. وإن كان الموت فدعني أمت في الضياء وتحت سرادق السماء.

ثم تركت ذلك المعهد على جواد عتيق فطويت بساط الثرى حتى انتهيت إلى روض عشيب مزهر في واد عازب مهجور. فيا ويلتا لكان هذه الأودية والرياض كانت كلها تصيح إلي قائلة:

ماذا تبغي وماذا تريد؟ نحن في نضرة وأزهار. وفي بهجة واخضرار. نحن نلبس لون الأمل.

فعدت أدراجي إلى المدينة فأضللت نفسي في طرقاتها الغامضة. وجعلت أنظر إلى الأنوار المشرقة من نوافذ أعشاش الأسرات الخفية المجهولة وأرمق السابلة والمركبات السائرة. يالله أي وحدة وعزلة في هذا الجموع المحتشدة والفئات المزدحمة! وأي دخان كثيف السواد. كثوب الحداد. فوق المنازل. وأي أحزان وأشجان في هذه السبل الملتوية والطرق المتعطفة - حيث لا تبصر إلا عاملاً مجهوداً. وناصباً مكدوداً. وإلا ازدحاماً. وتدافعاً واصطداما. إن هي (أعني المدينة) إلا بالوعة تلتقي فيها الأجسام لا الأرواح وتجتمع فيها الأبدان فأما النفوس فشاردة الأذهان نادرة نافرة. وما أن تبصر العين فيها إلا فجاراً عاهرين يمدون الأيدي للسابلة! فإن كان للمدينة لسان لكانت نصيحتها لبني الإنسان