الأقدمين. وكان هؤلاء الحكماء يفضلونه على الرادع الأدبي وهو محاسبة النفس وتأنيب الضمير لا لأنه أفضل منه بل لأن قيادة العامة بواسطته أسهل فهو من هذه الوجهة وحدها أولى وأنفع وعلى هذا المبدأ جاءت الديانات كلها فلا سبيل للاعتراض عليه إلا بالاعتراض عليها.
وقد يأخذ بعض الناقدين على الحكيم فتاحوتب أغفاله ذكر أمور شتى كالرفق بالحيوان فإنه لم يذكر في قانونه كلمة في هذا الشأن مع أن التاريخ لا يحفظ ذكر أمة كانت أرفق بالحيوان من الأدمة المصرية التي وصل بها حبها للأنعام وإشفاقها عليها أنها حرمت ذبحها أو قتلها وجعلت منها آلهة اتخذتها للعبادة وانتحلت لذلك أسباباً وأعذاراً شتى. وقد عثر النقابون في قبر فتاحوتب واضع هذا الكتاب على سطور منقوشة مؤداها أنه كان يستدعي في كل صباح قرداً وثلاثة كلاب يطعمها بيده ويمسحها إشفاقاً منه عليها ويؤخذ هذا الخبر وغيره من الأخبار دليلاً داحضاً على أن الحكيم لم يغفل ذكر بعض الأخلاق الفاضلة والعادات المستحبة إلا لأنها كانت مشاعة لدى أمته.
ومن المسائل الجديرة بالنظر ذكر المؤلف لإله واحد غير متعدد (مع العلم بتعدد آلهة المصريين) ووصفه ذلك الإله الفرد بأنه يعاقب المذنب ويثيب المحسن ويعطي السائل وينظم الكون ويحب مخلوقاته ويرقب أعمالهم حسنها وسيئها ويكلأهم بعين لا تأخذها سنة ولا نوم ويرى القارئ أن هذه الصفات اسمي ما يوصف به الخالق سبحانه وتعالى ولو كان الواصف من أساتذة اللاهوت في النصرانية أو علماء الكلام في الإسلام. فهل كان فتاحوتب موحداً كإبائه الكهنة وكان يريد بتوحيد الله في كتابه التصريح والاعتراف بالوحدانية من طرف خفي ولسنا نخوض عباب هذا البحث لأنه يدخل في باب الحكم على الغائب بالغيب وهذا الحكم لا يصدق إلا مصادفة وليس للمصادفات مجال في ميدان الحقائق إنما نجيب على هذا السؤال بما يظهر لنا ويجوز موافقته للحقيقة مع خروجه عن حد الفرض المستحيل فنقول ربما رغب الحكيم أن يكون لحكمه تأثير نافع في انتشار كتابه في سائر المدن والأقاليم فرمز لله بأنه الفرد القادر على كل شيء ذلك لأن أهل كل مدينة مصرية قديمة كان لها إله خاص لهم كآمون بطيبة وفتاح بمنف وغيرها من الأرباب فلو أنه ذكر واحداً من تلك الآلهة المتعددة لكان نصيب كتابه من التأثير قاصراً على أهل بلد دون غيره