للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقد أصمته سهام تلك النظرة ونفذت إلى صميم نفسه ثم داست قدمها أطراف الرداء. وبينما هو يسرع نحوها لم يستطع أن يمنعها من الركوع أمامه لحظة وهي في شكل يطبي نافر الهواء ويسلس جامح القلوب، وكانت كلها حياء ولم تكن روحه سوى مرآة تترآءى في صقالها الصورة التي كانت راكعة أمامه وتلك الزهرة المتفتحة التي مثلت لعينه.

وفي اليوم التالي زار الكنيسة وصار هذا المكان مقدساً في عينه وقد كان في نيته مواصلة الأسفار ومتابعة الرحلات، وكان رفقاؤه ينتظرونه بصبر وقلق المنزل ولكن منذ اليوم صار هذا المكان مألف نفسه ومهوى أفكاره ومعقد أهوائه، وكانت صورتها حاضرة لعينه مصورة في قلبه، وكان يراها في أوقات كثيرة ولم تكن هي تتجنبه، وكانت لا تستطيع القرب منه أكثر من دقائق متقطعة منّهبة من خلسات الزمان وغفلات العيش لأن عائلتها الواسعة الثروة الجاه كانت تشدد الرقابة عليها وكان لها خطيب.

وقد كانا يتبادلان الإقرار بالحب ولكنهما كانالا يعرفان ما يصنعان بعد ذلك لأنه كان غريباًٍ وليس في طاقته أن يقدم لمحبوبته ثروة طائلة كما كان ينتظر، وكان يشعر الآن بخصاصته ونضاضة وفره ولكنه لما كان ينظر إلى أسلوب الحياة الذي يعيشه الآن كان يخيل إليه أنه سائر إلى طريق الغنى والثروة وأنه سيفادى العيش أخضر صافياً وكان يرى وجوده قد أصبح طاهراً نقياً وقد صار قلبه مجالاً للعواطف الكريمة وكأنها كشفت له الغطاء عن محاسنها وأطلعته على فتان جمالها وبارع حسنها وصار يشعر أنه ليس بعيداً عن العبادة والدين، وكان الآن يعبر مدخل الكنيسة.

وقد صار لظلال المجهول الخافقة في نواحي المعبد شعور آخر في نفسه لم يكن يخالجها من قبل في أيام لهوه وطيشه وقد هجر أصحابه ومعارفه وعاش للحب، ولما كان يجتاز الشارع الذي فيه منزلها ويراها مطلة من النافذة وكان يقضي نهاره رخيّ البال منشرح الصدر وكان يخاطبها في أغلب الأحيان عند تدجي الليل وانتشار الظلام وكانت حديقة منزلها مصاقبة لحديقة صديق له لم يكن عالماً بسره وقد مر عام على كل ذلك.

كل هذه المناظر مرت صورها في ذاكرته، وكانت تلك الصورة النبيلة مارة إذ ذلك أمام بصره في الساحة الممتدة أمامه، وكانت تضيء بين الجموع كما تضئ الشمس، وكانت نغمات موسيقية لذيذة تصدح في قلبه الملب بالأشواق وبينما هي قادمة كان يعود إلى