للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الكنيسة وهناك قدم لها الماء المقدس وكانت أصابعها البيضاء تهتز عندما تلمس أصابعه ثم انحنت في رفق شاكرة له صنيعه فتبعها وسجد على كثب منها وكان قلبه يكاد يذوب حباً ويقطر حزناً وكان يظن أنه من جروح الاشتياق الرغيبة وصدوعه الدامية تكاد روحه تفنى في توسلات مستحرة وكانت كل كلمة من كلمات القسيس تدوي في أركان نفسه فتزداد حباً وإيماناً وكانت شفتاه ترتعشان والفتاة الحسناء تدني صليب سبحتها إلى فمها الياقوتي ولقد صار قلبه ملآن بالحب بعدما كان منه فارغاً، وزاهياً بالإيمان بعدما كان منه عاطلاً.

ثم أن الراهب رفع الخبز ودق الجرس فانحنت بضراعة وخشوع، وكأن ومض البرق مس إذ ذاك مشاعره ووجداناته، ومثل له أن الصورة التي على المذبح قد دبت فيه الحياة وأن النوافذ المعتمة الملونة كأنها أضواء منتشرة من نواحي الجنة، ثم فاضت مدامعه واستبقت عبراته فخفضت من نيران قلبه، وأطفأت من وقدة أحزانه.

انتهت الصلاة فقدم إليها الإناء المقدس ثم خاطبها ببعض كلمات ثم سارت عنه وتأخر هو قليلاً لكيلا يبعث على الريبة والظنون وأتبعها الطرف حتى اختفت حاشية ثوبها فأخذت بوارح الشوق تنشره وتطويه، ولواعج الحب تدنيه وتقصيه.

وصار يشعر شعور الجوابة الحائر في نواحي غابة فسيحة متباعدة الأطراف وقد غابت عن نظره آخر أشعة من شعاع الشمس الغاربة ولكنه انتبه من رقدته وأحلامه واستيقظ من تأملاته وغفلانه لما لمسته يد رجل متكهل ونادته باسمه فأجفل وتراجع إلى الوراء وعرف صديقه ألبرت، المسن، الملتهب الطباع الداني الغضب والذي كان يعيش في عزلة عن الناس وكان منزله المنفرد مباحاً لألبرت وقال له بصوته الخشن الأبح هل تتذكر وعدنا؟

فقال فرديناند نعم! وهل عقدت النية على أن تفي اليوم بوعدك؟

فأجابه ألبرت نعم وفي هذه الساعة فاتبعني إن شئت.

فسارا في المدينة إلى شارع قاص وهناك دخلا عمارة كبيرة وقال له ألبرت يلزم الآن أن تدخل معي إلى غرفتي المنعزلة حتى لا يكدر صفاءنا أحد.

فمرا من غرف عدة ومن سلالم كثيرة وممرات حمة وكان فرديناند يظن نفسه قد حدق المنزل وأحاط بكل نواحيه خبراً وقد صار يتعجب من كثرة الغرف ومن تنظيم المنزل وتنسيقه الغريب وكان يزيد في دهشته أن يسكن مثل هذا المنزل شيخ أعزب منفرد مع