وانفدفع وهو في اضطراب بال وتشرد خاطر في شوارع المدينة حتى أفضى به التسيار إلى أحد أبوابها فجلس خارج الباب تحت رفرف شجرة وكانت قد أخبرته في الصباح أنها ستذهب في المساء مع أقرباء لها إلى الضواحي ولما أسكره الحب ورنحه قام وطاف نواحي الغابات وجاس خلالها وكان ذلك الشكل المأنوس لا يزال ماثلاً لعينه بينا هو يطفو ويرسب في لهب من الذهب.
وكان ينتظر ظهورها لملاقاته في رونق بهائها ولكن الشبح كان ينكسر ثانياً أمام عينه وقد كان مغضباً من نفسه حنقاً عليها لأن هواه الغير المستقر وضجة مشاعره وهياج حواسه، كل أولئك قد بدد نظام الصورة وربما بدد آماله وشتت سعادته إلى الأبد.
ولما صار الطريق بعد الظهر مزدحماً غاصاً بالناس انسحب إلى أعماق الغابات ولكنه كان لا يزال يرمق جانب الطريق البعيد فكانت كل عربة تمر من الباب تلمحها عينه - وأقبل الليل وكانت الشمس الغاربة تتطرح أشعتها الحمراء عندما خرجت من الباب عربة مذهبة مزخرفة وكان يلمع منها ضوء ناري في توهج المساء فانسل إلى ناحيتها وكانت عينها قد لمحته وحنت صدره اللماع الزاهي من النافذة في رفق وقد علت وجهها ابتسامة صافية، ورأى تحيتها الدقيقة وإشارتها وكان واقفاً إلى جانب العربة فانهلت عليه نظرتها ولما اكنت تتحول للذهاب سقطت الوردة التي كانت تزين صدرها عند قدمه فرفعها وقبلها وقد اختلج في نفسه أن تلك الوردة تقول له أنه لن يرى حبيبته مرة أخرى، أن غدر مسراته قد جفت فلن يعود لها تدفق ومسيل، وأن نجم سعادته قد غاله من بعد البزوغ الافول، وان زهرة حباته ستلجّ من بعد النضرة في الذيول.
* * *
(الفصل الثاني)
كانت الخطوات السراع تمر فوق السلالم في هبوط وصعود، وكان المنزل كله في هرج وحركة وجلبة، وكان سكانه يتأهبون لحفلات الغد وكانت ربة المنزل أكثرهم فرحاً وأشدهم إقبالاً على العمل، وكانت العروس قد نفضت يدها من العمل وتراجعت إلى حجرتها لترسل الفكر في مصير حياتها، وكانت العائلة تنتظر ولدها الأكبر وزوجه - وكان ضابطاً في