كسائك مصباح عين الثور وفي فرط جذلك وطربك لهذا الاعتقاد.
لقد جاء في حكمة المتقدمين أن كل طفل شاعر وأن كل رجل مهما بلغ من جموده وجفائه ومن غلظته وقسوته فإنه يحمل في صميم قلبه قبر ذلك الشاعر الذي كأنه أيام هو صبي لاعب. على أنه يصح لنا القول بأنه لا يزال كل رجل مهما غلظت طباعه وجفت أخلاقه يضم بين جوانجه ويحمل في أعماق قلبه شاعراً حياً يعيش ويجيش ويلهو ويلعب تحت ظاهر الجامد القاسي - وهذا الشاعر الحي المتوقد في قلبه هو متعة حياته ولذة عيشه ومصدر ذاته ومبعث مسراته - أو هو كما يقال بهارى هذه الحياة وتوابلها وهو ترياقها وأكسيرها. وهو أريجها وعبيرها. وهو مجمرتها الفواحة بالطيب والشذا، التفاحة بالمسك والعنبر. ولقد أرى الناس يغفلون أو يتغافلون عما لا يبرح الإنسان يحمله في فؤاده حتى عهد المشيب والشيوخة - بل حتى يواري في ثرى رمسه من معاني الطفولة وخرافات الخيال وأخاديع المني وزخارف الأوهام والأحلام. فأنت إذا نظرت إلى حياته من الظاهر لم تلقها سوى كوخاً حقيراً من الطوب والآحر. فإذا استبطنتها وأفضيت إلى جوفها فلعلك واجد في صميمها غرفة ذهبية يرتع فيها الرجل ويمرح ويختال في برد ملفوف من نسيج أوهامه. ويرفل في وشي منمنم من غزل خرافاته وأحلامه. ويسحب مثل ذيل الطاووس من صنعة أباطيله. وينشر مثل أجنحة الملائكة من حوك أخاديعه وأضاليله. وفيها ينعم ويلهو. ويصدح ويشدو. ويجذل ويطرب. ويزهي ويعجب. ويمتع نفسه خيالاً بكل ما حرمه حقيقة ويستوهب من أكف الأوهام السخية السجيجة. أضعاف ما ضنت به الحقائق البخيلة الشحيحة، فإذا أبصرت طريقه في الحياة اسودت أرجاؤه وتكلفت ظلماؤه. فاعلم أنه يحمل في منطقته وتحت ردائه مصباح عين الثور.
لقد سمعت حكاية خرافية قرعت حبة فؤادي ومست صميم روحي. وهي حكاية الراهب الذي ولج بعض الغابات فسمع طائراً يغرد فلبث يصغي دقيقة أو اثنتين ثم عاد من حيث أتى فلما انقلب إلى الدير بالمدينة وجد نفسه غريباً بين أهله وسكانه من الرهبان ثم علم أنه قد غاب من الغاب مدة خمسين عاماً خيل إليه أنها دقيقتان. فعلم - هداك الله - أن هذا الطائر ليس مقصوراً على الغابة ولكنه كائن في حياة كل إنسان يكمن منها في أعماقها وأغوارها حيث لا بني يهتف ويغرد فلا يسمعه إلا هذا الإنسان وقد غفل عنه سائر الناس