للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

طرا. فالحمال المسكين الذي يرزح تحت حمله من أجل درهم - إنه والله ليسمع أغاريد هذا الطائر فيبتهج في أعماق نفسه ويطرب وأنت تحسب أنه ليس على أديم الأرض أبأس منه ولا أشقى. ولقد أمكنني بغير واسطة سوى مصباح عين ثور أيام طفولتي أن أستثير هذا الطائر من عالم الخيال فاستمتع ما شئت بمطارب ملاحنه وأنا ذلك الطفل المعدم المسكين الرث الملابس يخالني الناظر فريسة الوجاع والآلام. واليتيم في مأذبة اللئام. فحياة الإنسان مؤلفة من عنصرين - أولهما البحث عن مكان هذا الطائر وثانيهما الإصغاء إلى أغانيه. فمعرفتنا هذه الحقيقة وذكرانا لتلك الساعات الهنيئة التي كنا فيها ننصت إلى أغاريد الطائر هما اللذان يملآننا عجباً عندما ننظر في قصص الروائيين الوقعيين وذلك أن كل ما تجده في هذه القصص هو الجزء الظاهر لك من حياة الأشخاص - وهذا في الغالب لا يكون إلا المؤلم الموجع المضيض القفر الموحش المجدب. فأنت في تلك الروايات لا ترى الحياة إلا مؤلفة من الطوب والطين والوحل والخشب والحديد ورخيص الشهوات وحقير المخاوف والآمال - وكل ما يخجلنا أن نذكره وكل ما لا يهمنا أن ننساه - فأما أغاني ذلك الطائر المغتال لدولة الزمن الفيحاء فلا نسمع لها خبراً. ولا نبصر لها أثراً.

أرأيت إذ عثرت أثناء قراءة بعض تلك القصص الوقعية على قطعة نصف لك حال غلام مثلي أيام طفولتي يسير في الظلماء رث الثياب سيء الحال مجوّعاً مقروراً تقذفه السماء بنبالها الصائبة. وتضربه النكباء بسياطها القاضبة. أكنت واجداً في هذه الصورة سوى ما تصف لك من بؤس ذلك الغلام وكربته. وما تصور لك من مسكنته وذلته. ولكن هذه هي الحقيقة كلا هذا ما قد حسبه مؤلف القصة المضلل وما يظنه القراء الغافلون أنه الحقيقة. ولكن هؤلاء لم يبصروا سوى الظاهر الكذاب. وقد خفي عنهم الباطن والسر واللباب. فسل الغلام نفسه ينبئك أنه في جنة من النعيم أساسها هو ذلك المصباح الكريه الرائحة.

والواقع أن سر سعادة امرئ ومنبع سروره هو أعقد من المشكلات. وأعوض المعضلات. ومما لا يكاد إنسان مهما نفذت بصيرته. وثقبت بديهته. أن يستطيع الوقوف عليه. والاهتداء إليه فهذا السر والعلة الخفية قد تتعلق على أوهى من خيط العنكبوت من الوسائط الخارجية كمصباح عين الثور وقد تكون كامنة في خفايا نظام العقل وجوهر النفس وتركيب الروح وهي (أعني العلة الخفية في سعادة الإنسان) لا يكاد يكون لها روابط