بالأشياء الظاهرية - بل ربما لم يكن لها بتلك مساس البتة. حتى ترى أن عيشة الإنسان التي قد قبلها وارتضاها من القدر هي بحذافيرها خارجة عن منطقة الحقائق واقعة في دائرة الخيال، وفي هذه الحال يكون نهر اللذة في حياة المرء هو مما يجري تحت الثرى والأديم فأعين الناظرين البله المغفلين (أني لأرحمنهم رحمة واسعة لغرورهم وغفلتهم) لا تأخذ إلا ظاهر الأمر ولكنها عن مكنون الحقيقة عمية مكفوفة. لأنها لا تنظر إلا إلى الرجل. . . ومن نظر إلى الرجل كان بخيبه الظن وفساد الرأي مليئاً جديراً. لأن عين الناظر في هذه الحال لا تصيب من الإنسان إلا ما يماثل الساق من الشجرة الباسقة - فهو لا يرى إلا واسطة التغذية ومصدر القوت للإنسان فأما الإنسان ذاته فهو في عليا طبقات الجو وسط قبة الورق الخضراء ينعشه بمراوحها الهفهافة أيدي النسيم. وتطرب نغمات ألحان البلبل الرخيم. فالمذهب التأليفي الحقيقي هو في الواقع ليس سوى مذهب الشعراء (الذي يعده الناس خطأ نقيضاً للمذهب الحقيقي) فإنك ترى الشاعر يتغلغل بين الأغصان والقضبان وراء الإنسان الحقيقي المستتر كما قلنا في عليا طبقات الجو وسط قبة الورق الخضراء، وما أن ينى يرتقي ويتسلق كأنه السنجاب حتى يسمو إلى حيث يستطيع أن ينال لمحة من الفردوس السماوي الذي ينعم فيه الإنسان الحقيقي ويتلذذ. أجل إن المذهب الحقيقي مازال أبداً مذهب الشعراء - إذ ينقبون عن مكنون موضع اللذة ويفتشون عن محجوب مستقر الطرب ثم يجعلون لهذا الطرب صوتاً فوق مرتبة الغناء. ووراء أقصى غاية الموسيقى.
فإن الطرب هو سر السعادة فإذا فاتك الطرب فقد فاتك كل شيء. والطرب الذي يجد المرء في مباشرة أي عمل هو الذي يحعل لهذا العمل معنى وغاية وغرضاً وقيمة ووزناً. فهذا بيان الأمر - وهذا عذر كل امرئ في كل ما يباشر من الأعمال ألا ترى أن الذي لم يقف على سر المصباح لا يستطيع أن يدلاك حقيقة ما يجده الغلام حامل المصباح من اللذة الخفية. والنغمة اليسرية. ومتى صح الحكم على الكتب المسماة حقيقة المذهب بأنها أبعد الأشياء من الحقيقة. فإن كل هذه الكتب خلو من اللذة الشخصية والمعاني الشعرية ومن عالم السحر والأحلام ومن نسيج الخيال الذهبي الذي يكسو كل معنى عار ويشرف كل معنى خسيس. وفي كل كتاب منها (من الكتب الحقيقة) ترى الحياة هاوية إلى أسفل كالرصاص بدلاً من سموها كالمنطاد وتغلغلها في ذهب الأصيل وبهجة جمال الغروب. فإن