للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلن أنتبه ولم أزد على أن أتحول إلى جنب ثم أعاود النوم.

فامتلأت سروراً لهذه الفكرة ومضيت ألتمس حانة الشرب. ولما كان الوقت قرب السحر كان معظم الحانات مغلقاً فغاظني ذلك وأضرم نار غضبي فقلت في نفسي (ويحي ثم ويحي! أأحرم حق هذا المتاع القليل والعزاء اليسير. فعدوت مسرعاً في كل ناحية وجعلت أدق على أبواب الحانات وأصبح (خمراً! خمراً)

وأخيراً وجدت حانة مفتوحة فطلبت زجاجة من النبيذ وطفقت احتسي رضابها علاّ على نهل حتى أتيت ثم دعوت بثانية فثالثة وكنت أثناء ذلك أكره نفسي على الشرب إكراهاً كما يتوجر جرع الدواء مكرهاً. مضطراً يقاسي مرارته. ويعاني بشاعته. إذ كان يعلم في تعاطيه حياته. وفي تركه مماته.

وما لبثت أبخرة الشراب أن اشتملت على ذهني وقد أسرعت إلى النشرة بقدر إسراعي إلى الشرب. فأحسست في أفكاري تكدرا ثم صفاء ثم تكدرا. ولما فقدت ملكة التدبر والتروى رفعت إلى السماء بصري كالذي يودع نفسه واتكأت على المائدة. ويف هذه اللحظة ظهر لي أني لم أكن وحيداً في الحانة إذ أبصرت في طرفها الأقصى طائفة من أناس غلاظ الأصوات تخاف الوجوه شاجي الألوان: وكانت أزيائهم تدل على أنهم ليسوا من الشعب ولكن من تلك الطبقة الملتبسة المشتبهة التي هي أخبث الطبقات وأرذلها والتي لا أخلاق لها ولا منصب ولا ثراء ولا صناعة ولا حرفة إلا أن تكون حرفة سافلة مرذولة وهي طبقة لا إلى لأغنياء ولا إلى الفقراء قد أخذت من الأولى برذائلها وخسائسها. ومن الثانية بمتاعسها ومبائسها.

وكان أولئك القوم قد حمى بينهم ولميس الجدل على مائدة المقامرة. وكان بينهم فتاة صغيرة جداً رشيقة مليحة أنيقة الملبس بديعة الزي لا نشيه سائر الجماعة في أدنى شيء سوى صوتها وكان كأصواتهم خشناً مبحوحاً متقطعاً. وكان وجهها لفرط احمراره يوهمك أن الفتاة ما برحت منذ نعومة أظفارها تعالج مهنة منادي في شوارع البلدة. أقول لما نظرت إلى هذه الفتاة ألفيتها تحدد إلى طرفها كمن به حيرة ودهشة ولا جرم فلقد راعها وأدهشها أن يغشى مثل هذا المكان الحقير شاب في أفخر ملبس وأجمل شارة وأكمل زخرف وأبهج زينة. والحقيقة أن تأنقي كان مفرطاً خارقاً للعادة.