للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أن أتلاشى في ذلك العناق وكأنما قد ضعت من شدة التأثر ضياعاً وكأن نفسي من فرط الطرب قد طاحت جباراً: ولو أن فلاحاً أو راعياً مربي عرضاً وأنا على هذه الحال لم يشكك في أن كل ما بي هو مجرد استلقاء على العشب التماس الراحة بضع دقائق ولم يكن ظاهر حالي يدل على أكثر من ذلك. ومن ذا الذي كان يدك ما ظل يجيش بفؤادي نم طوفان ذلك الطرب وما طفق يثور بضميري من عواصف ذاك الوجد والهياج وظاهر أمري لا ينم على أدنى شيء من باطنه.

ولا مشاحة في أن مثل هذه الساعة من الحياة تبدو حقيرة قليلة القيمة إذا قيست بالمقاييس التجارية الاعتيادية التي تجعل قيمة كل ساعة حسب ما يستفاد فيها نم المادة. ولكن خبرني أيها القارئ هل للقيمة التجارية المادية أدنى قدر إذا قيست بالقيمة الوجدانية الروحانية المعزوة لأمثال ما وصفنا من تلك الساعة الخطيرة التي تتفتح فيها صفحات زهرة القلب لاستيعاب الأنوار الملكوتية والنفحات القدسية فتزهو وتنضر. وتسقى بالفيوض الإلهية فتزكو وتثمر. وهل ما يستفاد في مثل تلك الساعة من كنوز العلم والحكمة يصح أن يقاس به ما يكتسب من خسيس المعدن الأصفر والأبيض في الساعات التجارية المادية؟

ومع ذلك فنحن نرى أن لمصالحنا المادية وشؤوننا العملية من فرط الضجة والصخب ومن شدة الجلبة واللجب. ما يصمنا ويعمينا عن كل ما عداها من الشؤون والمسائل. حتى لقد نستنتج من ذلك أنه ليس ثمت سيبل إلى الوقوف على شيء من أسرار الحياة ولا إلى استجلاء الغامض من محاسن الطبيعة إلا بانصراف الإنسان عن المطالب المادية وصيروته كمية مهملة وشيئاً عديم القيمة من الوجهة العملية في نظر المجتمع. وعلى ذلك ترى أن هذه الوظيفة السامية - وظيفة الانصراف عن الماديات إلى الروحانيات وترك عيشة الجمود والنحجر إلى حياة الإحساس اللطيف الرقيق. والشعور الحاد الدقيق وما يقتضيه ذلك من الامتزاج بروح الله المتفجرة نم كل ذرات الكون وجزئيات الوجود حتى يصبح الإنسان كأنه شعبة نم شجرة الوجود العظمى ولبنة نم لبنات هيكل الكون إلا كبر ووتراً حساساً من الأوتار المؤلف منها قانون الطبيعة إلا كمل - أقول وعلى ذلك نرى أن هذه الوظيفة السامية وظيفة لا يستطيع تعاطيها وتأديتها إلا الرجل المطلق الدنيا الهائم وراء الخيالات والأحلام أو الرجل المتصوف المجذوب ممن يسمونهم أهلا لباطن أو الرجل