إذا نحن تعمقنا في الحياة وضح لنا الكثير مما خفى علينا من أسرار الأحزان الكبيرة وأسباب اليأس العظيم ورأينا أرواحاً كثيرة حولنا تحيا حياة خمول وإن النفوس قد أقفرت فلم تتفتح لها نفس لأنها على يقين من خلوها من كل ما يحفز على الإعجاب ويثير الإجلال ولكن الحكيم ترتاده الساعة التي تدعى فيها كل روح يقظته وانتباهه وحبه وحنانه ولو لم يكن ذلك إلا لأنها تملك هبة الوجود الخفية المقدسة والتي فيها ينظر الكذب والضعف والرذيلة كلها متجمعة على السطح حيث ينفذ عينه من خلالها وتستشف من ورائها القوة والصدق والفضيلة في الأعماق، وإنها لساعة مباركة سعيدة حيث يقف الشر وقد تجلى خيراً لم يجد هادياً وتظهر الخيانة كأمانة كانت مضللة مصدوده عن سبيل الرشد مبعدة عن ورد السعادة وحيث يصير الكره حباً واليأس قوة.
لنذهب حيث شئنا فإن نهر الحياة الجياش العباب يتدفق تحت قبة السماء ويسير بين حيطان السجون وأسوارها حيث لا تضاحك الشمس غوارب أمواجه بينما هو يتدفق بين درجات القصور حيث السرور والابتهاج، وليس يعنينا عمق ذلك النهر أو اتساعه أو قوة تياره الدائم التدفع والوثوب ولكننا نروم معرفة حجم وصفاء الكاس التي نغمرها في مائه الجاري لأن كل ما نحمله ونستهلكه من أمواهه يأخذ شكل تلك اتلكاس لأنها قد استعارت شكل أفكارنا وصورة إحساساتنا وإن لكل إنسان كاساً من صنع أمانيه وأحلامه وصياغة نوازعه ورغباته، فإذا نحن تذمرنا من القدر وتسخطنا أحكامه فإن ما يحزنن ويسبب شكوانا هو أن القدر لم يوقظ في نفوسنا إلا رغبة في كأس أفتن صنعاً وأبهر لألأ، والحقيقة التي قد تغيب عن أذهاننا هو أن فكرة عدم المساواة محصورة في الرغبة، وعدم المساواة هذه نزول في اللحظة التي ندركها فيها، وأن النزوع إلى رغبة أشرف كفيل أن يأتي لنا بها، فإن صدر المقدور لينبض بهذا الطموح الجديد فيزيد كأسنا جمالاً وإشراقاً وعمقاً واتساعاً لأن معدن تلك الكأس قابل للالتواء حتى في ساعة الموت العابسة الجافة، وليس هناك من سبيل لشكوى هذا الذي علم أن مشاعره ينقصها الحماس الرفيع أو للآخر الذي يصعد في أفق نفسه الأمل سعادة أوسع نطاقاً وإني إذا كنت أحسد حسداً شريفاً هؤلاء الذين استطاعوا أن يملؤا كؤوسهم أكثر فتنة وأمهر ائتلاقاً من كأسي حيث مجرى النهر سلسال صاف فإن عندي - وإن كنت أجهل ذلك - نصيباً وافراً من كل ما يستقون من النهر بل أن شفي