هو القدرة على أن يستعمل الإنسان الكلمات استعمال المصور للألوان وكذلك وصف الشعر أكبر شعرائنا في أبيات استحقت الإعجاب العام لقوتها وسلاسة تصويرها، وأكثر من ذلك لما فيها من الرأي الصائب السديد عن الفن الذي تفوق هو فيه: - كما أن الخيال يخلق الأشياء من عوالم المجهولات، فكذلك قلم الشاعر يصبها في قوالب الصور، ويعطي لصورة أخرجها شكلاً واسماً.
وهذه ثمرة من ثمرات التهيج الظريف الذي وصف به الشاعر هو أيضاً تهيج ظريف ولا ريب ولكنه بعد يهيج. إن الحقيقة ضرورية في الشعر ولكنها حقيقة المجانين. ان النتائج صحيحة ولكن المقدمات خطأ. لقد كان ينبغي بعد كتابة القضايا الأولى أن يكون التعليلي صحيحاً غير متضارب ولا متعارض، ولكن الحقيقة هي أن هذه القضايا ذاتها بحاجة إلى تساهل شديد لتصديقها يكاد يصل إلى اختلال جزئي مؤقت في الذهن. لذلك كان الأطفال أكثر الناس خيالاً لأنهم يطلقون العنان لأنفسهم في قبول كل الأوهام والأباطيل، وكل صورة مرت بأذهانهم تؤثر فيهم تأثير الحقيقة الواقعة. إن ما من إنسان مهما بلغت عقليته بمتأثر من رواية هاملت أولمير بمقدار ما تتأثر فتاة صغيرة من حكاية القبعة الحمراء. فمع أنها تعلم أن شيئاً من ذلك لم يكن وأن الذئاب لا تتكلم وأنه لا يوجد ذئاب في انجلترا بالمرة - مع هذا كله فإنها تصدق وتبكي وترتعد فرقاً ولا تجسر على أن تدخل غرفة مظلمة مخافة أن ينشب الوحش أسنانه في عنقها!! وهذا مبلغ تأثير الخيال في العقول الجاهلة غير المستنيرة.
ففي المجتمعات التي لم تزل على حالتها من الداوة والفطرة يكون رجالها أطفالاً صغاراً ذوي آراء أكثر أشد تنوعاً. وفي مثل هذه المجتمعات يمكننا أن نتوقع وجود العاطفة الشعرية في أسمى درجاتها. أما في المجتمعات المتمدنية المستنيرة فإننا نجد مواهب أعظم، وعلوماً وفلسفة أكثر، ووفراً من التقسيم الصحيح والتحليل الدقيق، والفصاحة والفكاهة، بل والقصيد البديع الكثير، ولكننا لا نجد إلا الشعر القليل. سيكون أهل هذا المجتمع أقدر على النقد والحكم والمقارنة ولكنهم أعجز عن الابتكار والخلق والإبداع. سيتكلمون عن الشعراء الأقدمين وسيشرحونهم وسيطربون بهم إلى حد معين، ولكنهم لن يستطيعوا أن يدركوا التأثير الذي كان يؤثره الشعر في نفوس آبائهم وأجدادهم من ألم وجذل وقوة إيمان. يقول